لا حدود للتقدم

حققت المدنية المعاصرة خلال ثلاثمئة سنة مضت، منجزات كانت تعد قديماً من صنف المستحيل، لكن هذا لا يعني بأي حال أن المدنية الإنسانية قد بلغت أوج تقدمها، وأن التقدم قد أصبح مستحيلا بعد الآن، لقد ازدهرت مدنيات أخرى كثيرة حدثنا عنها التاريخ وظن أهلها أن لا أحد يمكن أن يضاهيهم فيما وصلوا إليه من تقدم، لكن تلك المدنيات ما لبثت أن بادت لتحل محلها أخرى، أكثر تقدماً وازدهاراً.
لا شك أن المستقبل سيشهد مدنيات أكثر تطوراً من مدنيتنا المعاصرة، لكن ما هو أقصى مدى من التقدم و الازدهار يمكن أن تبلغه مدنيات المستقبل؟ لنطرح السؤال بطريقة أخرى: هل هناك حدود للتقدم؟
إن الإنسان هو مبدع المدنية، فللإجابة على سؤالنا الأخير لابد من أن نعرج قليلا على طبيعة النفس البشرية وتفاعلها مع التغيير و التجديد و التطوير.
من طبيعة الإنسان أن يركن ويستسلم لما هو متوارث ومألوف، ملتمساً فيه الأمان، وأن يتخوف للوهلة الأولى بطريقة عفوية من كل جديد، و كذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات البشرية فهي تقوم على مفاهيم وقيم ومعتقدات غالباً ما تكون في مصلحة أصحاب السلطة والنفوذ تمدهم بالصفة الشرعية لاستمرار بسط سلطتهم و نفوذهم على المجتمع، وعندما تهب رياح التجديد والتقدم، فهي غالباً ما تعصف بتلك المفاهيم والمعتقدات التي تكون قد أصبحت بالية بالنسبة لها، تحتاج إلى الاستبدال بأخرى أكثر تلاؤماً مع المستقبل، عندها يحصل العراك الذي يكون دامياً على الأغلب بين طلائع التقدم، ورموز السلطة القديمة، والنتيجة دائماً كما يخبرنا التاريخ لصالح التقدم، حتى وإن طال انتظارها، هذا ما واجهه جميع الأنبياء والمصلحون والعلماء، وقد علمنا ما تعرض له العلماء في عصر الظلام- العصور الوسطي- من اضطهاد على يد السلطات الحاكمة ودواوين التفتيش في أوروبا حيث تم تعذيبهم ونفيهم وحتى حرقهم أحياءً،  فهل وقف الاضطهاد حائلاً دون التقدم؟ لا، لم تمض بضعة قرون وهي فترة قصيرة في حياة الشعوب حتى انقلبت المفاهيم في أوروبا رأساً على عقب، لا بل إننا نجد أن كثيراً من المدنيات الغابرة قد بادت لأنها لم تأخذ بأسباب العلم والتقدم، وهاهي الإمبراطورية الرومانية خير مثال على ذلك:
يقول (يوليوس فروتينوس) أحد المهندسين العسكريين البارزين في عهد الإمبراطور (فيسباسيان) ما معناه :"إن الآلات و المعدات الحربية قد بلغت الآن ذروة التحديث والتطوير، ولا أرى أملاً في تحسينها، لذلك فإني لن أعير هذا الموضوع اهتماماً بعد الآن".
أما الفلكي الإغريقي الشهير (بطليموس)، فقد اعتقد في المئة الثانية بعد الميلاد، أنه من المستحيل عبور خط الاستواء، لأن أشعة الشمس العمودية في تلك المنطقة تؤدي إلى غليان المحيط، وإحراق السفن الخشبية التي تخاطر بعبوره، وقد ساد هذا الاعتقاد ألفاً ومائتي سنة حتى استطاع الأمير البرتغالي (هنري الملاح) عبور خط الاستواء برحلاته الجريئة، مثبتاً خطأ ما ادعاه (بطليموس) .

لم تخل العصور الحديثة من مثل هذه المواقف السلبية المعارضة للتقدم أيضا، ففي بداية القرن العشرين الميلادي كانت صناعة الطائرات تعد من المشاريع المستحيلة إذ أن صنع الطائرة يعني التحليق في الجو بجسم أثقل من الهواء، الأمر الذي يبدو غريباً للوهلة الأولى، كتب الفلكي (سيمون نيوكامب) عام 1903 ما معناه:" إن الطيران صنف من المعضلات التي لن يتمكن الإنسان من التعامل معها"، لم تمض بضعة أشهر على هذا التصريح حتى قام (أورفل رايت) بأول طيران ناجح له في كارولينا الشمالية- الولايات المتحدة-،  لم تنشر الصحف بادئ الأمر خبر طيران (أورفل) واعتبرته هراء لا أساس له من الصحة، وقد كتب المهندس (أوكتاف شانوت) في إحدى المجلات العلمية حينئذ " حسناً يمكن لهذه الآلات أن تطير إلى مسافات قصيرة إذا، وقد تستطيع نقل البريد في أحوال خاصة، لكن استطاعتها المفيدة ستكون ضئيلة جداً، ولا يمكن اعتبارها وسائط نقل تجارية".


 بعض وسائل النقل القديمة


لم تكد تمضي إحدى عشرة سنة على مقالة (أوكتاف)، حتى افتتح أول خط جوي لنقل الركاب بين مدينتين في ولاية فلوريدا.
لقد انتقد الفلكي (ويليام،هـ، بيكرنغ) قبل الحرب العالمية الأولى بفترة وجيزة ما يتوقعه البعض، من إمكانية عبور المحيط الأطلسي جواً من أميركا إلى أوروبة، مبيناً أنه لو حصلت مثل هذه الرحلات فإنها ستقتصر على مسافرين اثنين في كل رحلة، وستكون للأثرياء، مالكي اليخوت الفارهة فقط، فما الذي حدث؟ كلنا يعلم أن ملايين المسافرين يعبرون الأطلسي جواً الآن كل عام، على متن طائرات يخترق بعضها جدار الصوت، بعد أن كان تجاوز سرعة الصوت يعد بحد ذاته مستحيلاً.
كذلك واجهت مشاريع الفضاء معارضة مماثلة على كافة الصعد والمستويات، فعندما تنبأ (روبرت كودارد) مخترع الصواريخ التي تعمل على الوقود السائل، بأن هذه الصواريخ ستعبر الفراغ الكوني يوماً وتحط على سطح القمر، هاجمته صحيفة (نيويورك تايمز) بحدة مدّعية أنه يفتقر إلى معرفة ما هو الفراغ الكوني وأن الصاروخ يحتاج إلى رد فعل للقوة التي تدفعه كي ينطلق إلى الأمام هذه القوة لا تتوفر في الفراغ (حسب رأي الصحيفة)، لقد جهل كاتب المقال قانون (نيوتن) الثالث في علم التحريك الذي يقضي بأن لكل فعل رد فعل يساويه تماماً في القوة، ويعاكسه في الاتجاه بمعنى أن المحرك النفاث لا يحتاج إلى وسط يصدمه في الخلف كي يندفع إلى الأمام، بل إن سيالة الغازات المنفوثة من مؤخرة المحرك نفسها هي التي تدفع المركبة إلى الأمام.
بعد تسع وأربعين سنة من نشر هذا المقال، في صبيحة يوم من أيام عام(1969)، انطلقت مركبة الفضاء (أبوللو) مع طاقمها وحطت على سطح القمر، فعادت ال (نيويورك تايمز) لتتقدم باعتذار وتشريف إلى المتوفى (روبرت كودارد) على ما فرطت بحقه عندما تنبأ برحلة القمر.


عندما وطأت قدما الإنسان سطح القمر

يمكننا أن نسوق عدداً لا يحصى من الأمثلة الدالة على هذه الطبيعة الإنسانية في معارضة كل جديد، و التي كانت تقف في كل العصور عقبة كأداء في وجه التقدم.
ما ذا نعني بكلمة (التقدم) و هل من طريقة لتعريف التقدم و قياس مداه؟
يقترح (جورج إدوارد) لهذا القياس نموذجاً أسماه مؤشر السرعة التصاعدي (Speed Exponential)، يمكن وفقاً لهذا النموذج قياس التقدم اعتماداً على معدل المسافة التي يمكن للفرد في عصر ما أن يقطعها خلال يوم واحد.
لقد بقيت هذه المسافة مئات الألوف من سنين خلت، تمثل ما يقطعه الفرد سيراً على الأقدام، ولم تكن تتجاوز(30كم ) في اليوم الواحد، ثم بدأ تطويع الجياد للسفر قبل بداية التاريخ الميلادي ببضع آلاف من السنين، فارتفعت هذه المسافة لتصبح(60كم) في اليوم، ثم جاءت النهضة الصناعية في أوروبة بالطرق المعبدة وبعربات النقل التي تجرها الجياد وخصصت محطات على طول طريق السفر لاستبدال الجياد المتعبة بأخرى نشطة فارتفع هذا المعدل ليبلغ (120كم) في اليوم، إلا أن إدخال قطارات السكك الحديدية في الاستثمار أدى إلى ارتفاع متميز في هذا المعدل فبلغ (850كم) في اليوم، كما أدى استخدام الطائرات في السفر إلى ارتفاع حاسم في معدل المسافات المقطوعة في اليوم ليبلغ (2000كم ) مع حلول عام 1940، وفي غضون عقدين تاليين ارتفع المعدل أربعة أضعاف مع انتشار استعمال المحرك النفاث فبلغ حوالي (8000 كم ) وأصبح بالإمكان قطع المسافة بين نيويورك وبيروت في يوم واحد فقط، أما استخدام الطائرات التي تفوق في سرعتها سرعة الصوت في منتصف السبعينات فقد ضاعف هذه المسافة إلى (16 ألف كيلومتراً في اليوم)، أي ما يعادل المسافة من نيويورك إلى (سيدني) في أستراليا.
يبدو البون شاسعاً بين المسافة المقطوعة بواسطة وسائل النقل الحديثة وبين تلك التي كان يقطعها مسافرو العربات أو القطارات في اليوم الواحد ومع ذلك فهي لا تقارن بالمسافة التي يقطعها ملاحو سفينة فضاء في مدار يبعد(450) كيلومتراً عن سطح الأرض و التي تبلغ حوالي (360 ألف) كيلو متراً، يقطعونها خلال (12 ساعة) ويشاهدون خلالها غروب الشمس (9)مرات.



إن استمداد نموذج (مؤشر السرعة التصاعدي) إلى المستقبل لمعرفة حدود التقدم الممكنة يتعلق بتأمين النفقات الباهظة التي تلزم للارتحال إلى الكواكب البعيدة، فتكلفة مشروع (أبوللو) وحده بلغت (25 مليار دولار) وهو رقم كبير يقابل ميزانية دولة غنية، فهل يعقل أن تنفق إحدى الدول ميزانيتها أو حتى جزءاً كبيراً من هذه الميزانية في مثل هذه المشاريع؟ الواقع أن سؤالنا هذا يقوم على فرض أن الدخل القومي ثابت، لكن الواقع غير ذلك، إذ تتدخل عدة عوامل في زيادة الدخل القومي للدول مع استمرار التقدم فإذا أخذنا الولايات المتحدة الأميركية مثلاً نجد أن معدل زيادة الدخل القومي فيها قد بلغ (4% ) في السبعينات من القرن الماضي، لنفترض أن هذا المعدل لن يتجاوز(3%) على مدى المستقبل المنظور، فنجد بحساب إحصائي بسيط أن كل ما يتزايد بنسبة (3%) سنوياً يصبح ضعفين بعد كل (23 سنة) يمكن تمثيل ذلك رقمياً من خلال الجدول التالي:

السنة
الدخل القومي (مليار دولار)
1971
1000
1980
1300
1990
1750
2000
2360
2050
10330
2100
45245
2150
198173
2200
867998

هذا ليس وهماً مثل الذي جاء به المتشائمون من نادي روما و غيره في أن القنبلة السكانية ستنفجر بين عشية وضحاها، إذ أن زيادة عدد السكان لا تخضع للقوانين الاقتصادية التي تخضع لها زيادة الدخل القومي، إن بناء أسطول من الطائرات الحربية في بداية عصر النهضة في أوروبا مثلاً، كان سيتطلب أضعاف ميزانية إنكلترا في تلك الأيام، بينما لا يكلف حالياً إلا جزءاً يسيراً من هذه الميزانية، عموماً فإن إمكانية القيام بالمشاريع الكبرى تزداد بازدياد الثراء القومي.
نجد أن لا حدود للتقدم في إطار القوانين الطبيعية التي تحكم الكون طالما طوعت هذه القوانين وأحسن استخدامها في خدمة الجنس البشري لكن استمرار وجود هذا الجنس على سطح الأرض ما زال يتعلق ببعض الافتراضات أهمها:
1-    أن لا يطرأ تغير جذري على معدل إشعاع الشمس خلال بضع آلاف السنين القادمة،
2-    أن لا يقتحم نظام المجموعة الشمسية جسم غريب من أعماق الكون يؤدي إلى خلل في هذا النظام،
3-  أن لا يطرأ تغير جوهري على طبيعة الإنسان، أو بمعنى آخر أن لا تتغير ردود أفعال الجنس البشري في تعامله مع الكون المحيط عما هي عليه الآن.
يبدو أن الفرض الأول هام، و بالرغم من أن مخطط هرتزسبرنغ – رسل تقريبي فإن احتمال أن تشذ الشمس عن القاعدة وتغير من قدرتها الإشعاعية يبقى ضعيفا لا تتجاوز نسبته الواحد من عدة ملايين.
يستتبع الحديث عن الفرض الثاني ما يتوقعه العلماء المعاصرين، منهم(كارل ساغان) و(أيوسيف شلوفسكي)، من أنه بمقدور المدنيات العاقلة، فائقة التطور، التي يتوقع وجودها في الكون، أن تستخدم مدافع ليزرية متطورة في تفجير النجوم للاستفادة من المعادن والخامات الموجودة فيها، تماماً كما نستثمر الجبال لاقتلاع الأحجار منها على سطح الأرض، فلو قذف كل سنتيمتر مربع من سطح الشمس بطاقة مقدارها عشرة آلاف مليون إرغة[1] من أشعة غاما كل ثانية، لأدى ذلك إلى حدوث تفاعلات نووية متسلسلة في باطن الشمس، تقودها في النهاية إلى الانفجار الهائل المسمى (المستعر الأعظم: SUPERNORA)، والذي سيؤدي بالنتيجة إلى نسف جميع كواكب المجموعة الشمسية وإنهاء وجودها إلى الأبد.
هناك احتمال، ولو كان ضعيفاً جداً إذاً، في أن تقوم إحدى المدنيات العاقلة من أعماق الكون، أو حتى من الأرض نفسها في المستقبل البعيد بتفجير الشمس، فالتاريخ الإنساني يقدم نماذج من الطغاة الذين تعطشوا لتدمير العالم فيما لو أتيحت لهم الفرصة، والتكنولوجيا الملائمة، لقد صرح (هتلر) في عام 1945 أنه يتمنى لو أن هناك قنبلة تكفي لتدمير العالم كله، كذلك لا ننسى القيصر (نيرون) الذي أحرق روما، وراح يتمتع بمشهد ألسنة اللهب التي تندلع منها.
أما الفرض الثالث، فجدير بالاهتمام أكثر من سابقيه، إننا لا نستطيع صياغة الطبيعة الإنسانية في قانون رياضي، وبالتالي لا نستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الطبيعة في المستقبل البعيد، لكن سجلات التاريخ تشير إلى أن هذه الطبيعة لم تتغير في جوهرها منذ ظهور الجنس البشري على سطح الأرض، إنها اليوم كما كانت في مصر الفرعونية القديمة.
مازالت طبيعة الإنسان أو ماهيته غير معروفة تماماً، بالرغم من أبحاث علم النفس المستفيضة في هذا السبيل، فالبشر يختلفون في سلوكهم الشخصي اختلافاً كبيراً لا يقارن بالاختلاف بين أفراد الكائنات الحية الأخرى ، إننا نستطيع معرفة ردود الفعل الإنسانية بدرجة عالية من الموثوقية، فلو أوقف دفع أجور العمال مثلاً فإنهم سيضربون عن العمل، ولو اجتاحت جيوش إحدى الدول أراضي دولة أخرى ستقوم الحرب، إن أموراً كهذه يعرفها أبسط مواطني الدولة الفرعونية القديمة، لكن ما يعنينا هنا هو إيجاد تحليل أكثر دقة وعمقاً لتفاصيل السلوك الإنساني.
يصف أحد المؤرخين الملك (هنري الثامن) بما يلي:


[1] . إرغة: هي الواحدة التي تقاس بها الطاقة أو القدرة في الجملة السغثية – أي عندما نقيس الطول بالسنتيمتر و الكتلة بالغرام و الزمن بالثانية، مثلا: تحتاج النملة إرغة واحدة لتحريك 1 غرام مسافة قدرها 1 سنتيمتر خلال ثانية واحدة.

" سليل الأسرة الحاكمة هذا كان مخلصاً، منفتحاً، شهما، طموحاً، حكيما، متحمساً، متحرراَ، باسلاً ، حازماً، شجاعاً، لكنه جمع إلى هذه الفضائل نقيضها من: العنف، والضراوة، والإسراف، والجشع، والظلم، والعناد، والعجرفة، والتعصب الأعمى، والوقاحة، والتقلب في الرأي".
بغض النظر عما إذا كان هذا الوصف منصفاً لـ(هنري الثامن) أم لا فإنه وصف واقعي ونموذجي لطبيعة النفس الإنسانية، يمكننا طبعاً أن نضيف الكثير من الصفات الإنسانية إلى تلك الواردة أعلاه، لكنها لن تكون إلا فروعاً من تلك الصفات العامة التي أتى عليها المؤرخ.
لكي يستمر الجنس البشري في التقدم إذاً لابد أن يكون هناك توازن بين الصفات الإنسانية السلبية والإيجابية، بحيث يتصدى لكل صاحب قرار متعجرف، ومتعصب، ووقح، ندّ
حكيم متحمس وباسل، هكذا هي الطبيعة الإنسانية فهمها صعب لكنها ذات طبيعة لم تتغير عبر العصور، هي التي نهضت بالبشرية إلى ذرى القوة الاقتصادية و المعرفة العلمية
 بفضائلها من طموح وجرأة وبسالة، يبدو أن للوراثة دوراً كبيراً في نقل هذه الصفات البشرية عبر العصور من الأجداد إلى الأحفاد، الأمر الذي دفع بعض علماء الوراثة إلى البحث في وسيلة تكرس الصفات الإنسانية الفاضلة، وتمحو الصفات الدنيئة عن طريق التدخل في بنية المورثات المنتقاة من جيل لآخر، لكن كثيراً من علماء الاجتماع حذروا من الأخطاء الاجتماعية التي يمكن أن تنجم عن مثل هذه الأبحاث فيما لو كتب لها النجاح
 لقد أشار (جيرالد ليش) في كتابه  ( البيروقراطيون- The Biocrates) إلى أن مثل هذه الأبحاث - لو نجحت - ستؤدي إلى إلغاء الفردية والتمايز بين البشر، وستلغي الطموح الفردي والتنافس والحرية نهائياً من القاموس الإنساني، إن الجنس الذي تتحكم بسلوكه
الوراثي مختبرات الأبحاث الحيوية، بدلا من الانتخاب الطبيعي ليس إلا جنساً خاملاً يفتقر إلى أدنى طموح في التقدم العلمي، ناهيك عن الطموح في السفر إلى الكواكب البعيدة.
يقول عالم الوراثة (بيتر مداور):" إن صنع الإنسان المتفوق أصبح فكرة مرفوضة وإن تحقيقها مستقبلا، يعتبر ضرباً من المستحيل، وإذا عدنا إلى تجاربنا في الانتخاب الصناعي بين الحيوانات، نجد أن تغيير الصفات الحيوية لجنس معين بالتهجين يستغرق حوالي 600 سنة، ولا شك في أن أي نظام حاكم، سواء أكان دكتاتوريا، أم إصلاحيا، لن ينتظر طيلة هذه الفترة ليحصل على الصفوة المرجوة من البشر بهذه الطرق الصناعية".
هكذا نجد أن احتمال حدوث المخاوف التي تتهدد الجنس البشري بالفناء، يكاد يكون بحكم المستحيل والنتيجة الحتمية لذلك، بعكس توقعات (نادي روما) أن تزداد الثروة المتاحة لسكان الأرض تدريجياً بمعدل يتراوح بين 3 و5 بالمئة كل عام، مما سيسهل تطويع الطبيعة في خدمة الإنسان.
لنستذكر ثانية تصنيف كارداشيف لأطوار المدنية الكونية، وأننا مازلنا نعيش في الطور الأدنى، لكننا لن نلبث أن ندخل الطور الثاني عندما نبدأ في استثمار الثروات المتوفرة في نظامنا الشمسي، خاصة طاقة الشمس التي لا تتلقى الأرض من إشعاعها حالياً سوى النذر اليسير، إن مدنية" في هذا الطور تعد أغنى من مدنيتنا المعاصرة بعشرة مليارات مرة ولقد رأينا كيف يتضاعف نماء الثروة القومية للشعوب، بحيث لن تمضي سبعمئة وثلاثون سنة حتى يتضاعف الدخل الحالي لسكان الأرض عشرة مليارات مرة، إن بذور انتقال المدنية الإنسانية من طورها الكوني الأول إلى الثاني، بدأت منذ إطلاق أول قمر صناعي في مدار حول الأرض عام(1957) تلاه مئات أخرى من الأقمار الأكبر حجما وتطوراً، كما جاب رواد الفضاء مدارات عديدة حول الأرض، وانطلقت سفن فضاء غير مأهولة لترتاد كواكب المجموعة الشمسية كالزهرة والمريخ، ومشى اثنا عشر رائد فضاء على سطح القمر، كما قام كثيرون غيرهم بإجراء تجارب هامة في (مخبر الفضاء- SKY LAP) وغادرت سفينة فضاء غير مأهولة نظام المجموعة الشمسية بعد أن مرت بكواكبها وأجرت عليها الدراسات، والتقطت لها الصور، متجهة إلى آفاق لا نهاية لها في أعماق الكون.
لعل أفضل ما أنجزته البشرية في القرن العشرين هو الوصول إلى اتفاق حول الحد من الأسلحة النووية تمهيداً لنزعها نهائياً، وتجنيب الإنسانية شبح الدمار النووي، والاستفادة من الطاقة النووية الهائلة لرفاه وسعادة وتقدم الإنسان.
نعم لقد انتهى مشروع (أبوللو) لدراسة واستكشاف جارنا السماوي ( القمر) لكن لن يمضي عقدان أو ثلاثة حتى تستأنف الرحلات الفضائية إليه ثانية، فمن طبيعة الإنسان دائما أن يعود إلى الموطن الذي وطأته قدماه مرة، إن ما يشجع على إعمار القمر، أنه يمثل مختبرا فضائيا نموذجيا لدراسة الكون بعيدا عن الغلاف الجوي للأرض الذي يحجب عنا الرؤية الفلكية الواسعة، كما أنه يشكل قاعدة مثلى لانطلاق رحلات الفضاء مستقبلا بمساحته التي تضاهي مساحة القارة الإفريقية.

فما الذي يخبئه القمر لنا من مفاجآت!

تعليقات

  1. الردود
    1. شكرا أستاذ ابراهيم على مرورك و ملاحظتك الكريمة

      حذف
  2. فعلا انه عالم العلم والمعرفة والابداع..مليء بالكنوز المعرفية يأخذك الى عالم يعتمد البحث العلمي في ميدان تكنولوجيا العصر الحديث وافاقها الواسعه..شكرا لجهودكم المثمره...

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا أخي الغالي أستاذ أبو أحمد على مرورك و تعريفك القيم. يسعدني وجودك معنا.

      حذف
  3. مع كونى من المنكرين لرحلات القمر والكثير مما ورد فى المقالة ولكن تحية لمجهودك

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بأخي الأستاذ رضا، حتى و لو أنكرنا رحلات القمر و اعتبرناها دعاية هوليودية في سني الحرب الباردة بين القطبين العالميين الكبيرين، فإننا لا نستطيع بحال أن ننكر كون التطور هو سنة الحياة. شكرا على حضورك معنا و أطيب التحية.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم