الطارق أو النجم الثاقب



للنجوم دورة حياة تمر خلالها بمراحل الطفولة فالشباب فالشيخوخة ... فالموت؛ تولد النجوم من تجمع ذرات الهيدروجين في السُدُم الكونية المنتشرة بين المجرات. أما السديم (Nebula-جمعه السدم)[1].  فعبارة عن غبار كوني يتكون أساسا من الهيدروجين و قليل من الهليوم.
تتراكم ذرات الهيدروجين في السديم بتأثير كتلتها الذاتية التي تتعاظم مع مرور الزمن حتى تبلغ حدا كبيرا معينا يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الهيدروجين إلى العتبة التي تسمح له بالدخول في تفاعلات اندماج نووي شبيه بالتفاعل الذي يحدث في القنابل الهيدروجينية أو النووية، مع فارق أن القنبلة الهيدروجينة ترتفع حرارة الهيدروجين فيها بطريقة مفتعلة من خلال تفاعلات تسبق الانفجار النووي.
إن الاندماج النووي للهيدروجين في السدم الكونية يؤدي إلى ولادة النجوم، و هو مصدر الحرارة الهائلة التي تشعها هذه النجوم، و منها شمسنا بالتأكيد، يمكن اعتبار الشمس إذا فرنا نوويا ينتج الطاقة من هذا الاندماج النووي مخلفاً الهليوم كرماد.
يتجمع الهليوم الناتج عن التفاعل في نواة الشمس أو النجم حديث الولادة لأنه أكثر كثافة من الهيدروجين، وبهذا تتعاظم قوى التجاذب في نواة النجم مع مرور الزمن، وترتفع درجة حرارة النواة حتى تبلغ حوالي (100) مليون درجة مئوية، عندها يبدأ الهليوم نفسه بالدخول في تفاعلات اندماج نووية من جديد محوِّلةً الهليوم إلى عناصر أخرى أثقل، كالأوكسجين، والكربون، والنيون.
تدعى درجة الحرارة التي يبدأ الهليوم عندها بالدخول في التفاعل النووي بدرجة وميض الهليوم (Helium Flash). مع استمرار تفاعلات الهليوم و ارتفاع درجة الحرارة الهائل الناتج عن هذه التفاعلات، تتمدد  نواة النجم فتندفع طبقاته الخارجية لتشغل حجماً أكبر بملايين المرات من حجمه الأولي متحولا إلى ما يسمى بالعملاق الأحمر (Red Giant)، ويبقى على هذه الحال بضعة ملايين من السنين، مخلفاً نواة منكمشة باردة نسبيا تسمى بالقزم الأبيض (White Dwarf).
هذا ما ستنتهي إليه شمسنا بعد حوالي خمسة مليارات سنة، عندما ستصبح عملاقا أحمر يبتلع الكواكب الأقرب إليها و منها الأرض. مخلفة قزما أبيض [2]، قطره يساوى قطر الأرض بينما كتلته أقل من كتلة الشمس بقليل. و هذا أيضا ما تنتهي إليه حياة النجوم التي تقترب في كتلتها من كتلة الشمس.


منظر تخيلي لما ستبدو عليه الأرض عندما تبدأ الشمس بالتضخم لتبتلع الكواكب القريبة منها


و لكن ماذا عن النجوم التي تزيد كتلتها عن كتلة الشمس؟  لقد رأينا أن التحول النووي للهليوم في النواة نتج عنه عناصر أخرى بقيت في هذه النواة كالأوكسجين والكربون والنيون لأنها أثقل من الهليوم، يؤدي تراكم هذه العناصر في النواة إلى ارتفاع درجة حرارتها من جديد، حتى إذا بلغت حوالي (2300) مليون درجة مئوية، تبدأ العناصر المذكورة نفسها بالدخول في تفاعلات اندماج نووية محررة كمية هائلة من الطاقة بتحولها إلى معادن ثقيلة: كالتيتان، والكروم، والمنغنيز والحديد و يتوقف التفاعل النووي عند انتاج الحديد، لأن الاندماج النووي للحديد يتطلب كمية كبيرة من الطاقة أكبر من التي ينتجها الانهيار الثقالي للنجم أو تكوره على نواته.
يقع النجم والحالة هذه، تحت تأثير قوتين: الأولى تعمل من نواة النجم في اتجاه الخارج، و الأخرى تعمل في الاتجاه المعاكس (من سطح النجم نحو النواة) ناتجة عن التجاذب الثقالي الذاتي لكتلة النجم، هذه القوة الثانية تزداد كلما كانت الكتلة الأولية للنجم أكبر. عندما يصل النجم إلى هذا الطور، يصبح عملاقا أحمر خارقا (Red super giant) لا يلبث أن يندفع في انفجار مُسْتَعِرْ، يضاهي في لمعانه إضاءة مئة مليون شمس مثل شمسنا، وقد يستمر لمعانه هذا بضعة أسابيع، تسمى هذه الظاهرة بالعملاق المستعر SUPER NOVA)). لقد سجل الصينيون عام (1054) مثل هذه الظاهرة، التي شوهدت في وضح النهار، واستمرت بضعة أسابيع، وبقيت مرئية بالعين المجردة في الليل عدة أشهر إلى أن خمد السعير تدريجياً. تؤدي الحرارة الهائلة الناجمة عن انفجار السعير هذا إلى انتاج معادن كثيرة أخرى أثقل من الحديد، كالكوبالت و النيكل و النحاس، و غيرها من المعادن الثقيلة تتناثر مبتعدة عن مركز الانفجار في أرجاء الفضاء الكوني، و قد تظهر في سماء الأرض أحيانا على شكل شهب و نيازك تتكون من الحديد و معادن أخرى ثقيلة. 




أما بقايا النجم المتخلفة عن الانفجار فتنكمش في اتجاه نواته، متكورة على نفسها، ويستمر هذا التكوير إلى الحدود التي تسمح بها الكتلة الأولية للنجم. فإذا كانت الكتلة الأولية للنجم تتراوح بين 8-29 ضعفا من كتلة الشمس، فإن تكور النجم سيستمر حتى يسحق ذرات المادة المتبقية، وهي الالكترونات السالبة و البروتونات الموجبة فتتفانى شحنتاهما المتعاكستين، ولا يبقى بالنتيجة سوى جسيمات معتدلة كهربائياً تدعى بالنيوترونات (NEUTRONS) و يسمى النجم المتكون بهذه الطريقة بالنجم النيوتروني:(NEUTRON STAR).
 إن النجوم النيوترونية هي أصغر و أكثر أنواع النجوم المعروفة في الكون كثافة، يبلغ قطر النجم النيوتروني عادة حوالي 10 كيلو متر، مع ذلك فإن كتلته قد تبلغ ضعف كتلة الشمس[3].  
النجوم النيوترنية غير مضيئة، فهي تستخفي عن عين الراصد، إنما يمكن التعرف على مواقعها في السماء بسهولة نظراً لأنها تدور حول محورها بسرعة فائقة، فتبث من خلال دورانها أمواجاً كهرومغناطيسية على شكل نبضات تتواتر بدقة فائقة، بل هي أكثر دقة من الساعات الذرية، لذلك تسمى بالنجوم النابضة (PULSARS) أيضا.
تسبح النجوم النيوترونية في الفضاء، محدثة أصواتا كأصوات الطَرْق[4] ، و تكنس في طريقها كل ما يعترضها من غبار كوني وأجسام مادية أخرى بتأثير جاذبيتها الهائلة، فهي تعمل كالمكنسة الكهربائية في التقاط الغبار الكوني و غيره من كتل مادية مبعثرة في الفضاء،  فلو أردنا و صفها بكلمتين بليغتين، لقلنا أنها نجوم (خُنَّسْ) [5]، لأنها مستخفية عن الأنظار، و (كُنَّسْ) لأنها تكنس كل ما يعترضها من غبار كوني و غيره، فلعلها المشار إليها بقوله تعالى: "فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)-التكوير.
لاحظ أن وصفها الدقيق هذا قد جاء في سورة التكوير تحديدا، وقد وجدنا أن مثل هذه النجوم تنشأ من تكور النجم الأولي على نواته.
في الفيديو التالي صوت ملتقط لنجم نابض يدور حول نفسه 1.4 دورة في كل ثانية ، علما بأن بعض هذه النجوم يدور حول نفسه بسرعة مذهلة تتجاوز 700 دورة في الثانية، أي أن السرعة الخطية لسطحه تبلغ بضعة أجزاء من سرعة الضوء.



ماذا لو ازدادت كتلة النجم لتصبح أكبر من 30 ضعف من كتلة الشمس؟ في هذه الحالة ستصبح قوى الجاذبية من الشدة بحيث تستطيع متابعة ضغطها على النيوترونات متغلبة على جميع القوى المعاكسة، فيستمر النجم في التكورحتى تتلاشى أبعاده الطبيعية، أي حتى يحدث ثقبا في أبعاد العالم الطبيعي (ثقبا في الزمان و المكان- أو الزمكان)، فيصبح نجما ثاقبا،  ويسمى الثقب الذي يخلفه مثل هذا النجم بالثقب الأسود (Black Hole)،  سمي كذلك لأن الضوء لا ينفذ منه بسبب جاذبيته العظمى، فلا يخلّف سوى بقعة سوداء في السماء، يحيط بها قرص ساخن من مادة ذات درجة حرارة فائقة تبلغ ملايين الدرجات المئوية، و بمجرد اقتراب أي جسم مادي من أعتاب هذا القرص فإنه لن يستطيع العودة إلى الوراء أبدا، إنه سيدخل في منطقة خارج الزمان و المكان، إنه سيلج عالما آخر لا تحكمه قوانين الطبيعة المعروفة لذلك يسمى هذا القرص بأفق الحدث (Event-Horizon)، فعنده تتوقف الحوادث الكونية التي تحكمها قوانين الطبيعة المعروفة.



يبتلع الثقب الأسود كل ما يقترب منه من أجسام سماوية حتى النجوم الكبيرة، و عندما تهوي هذه النجوم في الثقب الأسود فإنها تصدر أمواجا من الأشعة السينية أشبه بأصوات الاستغاثة، يستدل علماء الفضاء منها أحيانا على موقع الثقوب السوداء.
بتاريخ 17 آب (أوغست) من العام الحالي (2017)، سجل أكثر من مرصد على سطح الأرض ، اندماج نجمين نيوترونيين أدى إلى نشوء ثقب أسود في المجرة (NGC 4993) انظر (هنا) من فضلك.  
 فهل هذا ما تصفه الآيات التالية من سورة الطارق؟؟
 " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)-الطارق

ملخص دورة حياة النجوم



______________________________________

المراجع:

[4]. وَأَصْل الطَّرْق : الدَّقّ , وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْمِطْرَقَة ,، و الطَّارقُ : الآتي لَيْلاً :من معجم المعاني الجامع
[5]. خَنَس: استخفى: من معجم المعاني الجامع

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم