من الغزّالي إلى ابن رشد: ملحمة التكفير و التفكير


أن يحتفل محرك البحث الشهير "غوغل" بعيد ميلاد ابن رشد الثمانمائة وثمانية وثمانين، أو أن يُسَمى كويكبا اكتشف عام 1973 باسمه، بينما لا يحفلُ العرب به بل ربما لايعرفه معظمهم أصلا، لأمر يندى له الجبين ولكنه ليس غريباً، إذ لا كرامة لنبي في وطنه، فليس من المستغرب أن يتم الاحتفاء بفنانين مراهقين في برامج تبيع المواهب لمن يشتري بينما يرقد ابن رشد في قبره أسِفاً على ما أضاع من عمره في سبيل إحياء العقل في أمة ركبها الجنون لحظة قرر أحدهم أن "لا اجتهاد في مورد النص  وزاد آخرون باعتبار النص كلّ "ما خطّه الأولون".
ولد ابن رشد في قرطبة يوم 14 أبريل (نيسان) عام 1126م، وهو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضٍ وفلكي وفيزيائي مسلم، نشأ في أسرة من أكثر الأسر وجاهة في الأندلس والتي عُرفت بالمذهب المالكي. حفظ موطأ مالك، وديوان المتنبي، ودرس الفقه على المذهب المالكي والعقيدة على المذهب الأشعري.
يعد ابن رشد من أهم فلاسفة الإسلام، دافع عن الفلسفة وصحح فهم علماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي لبعض نظريات أفلاطون وأرسطو. قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين في الأندلس، فعينه طبيباً له ثم قاضياً في قرطبة. تولّى ابن رشد منصب القضاء في إشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو؛ تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف.
تعرض ابن رشد في آخر حياته لمحنة حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر والإلحاد، فكانت كلمته الشهيرة:
"ابتلينا بقوم يحسبون أن الله لم يهدِ سواهم"
يرى الدكتور محمد عابد الجابري في معرض تحليله للأسباب الخفية وراء انقلاب الخليفة الموحدي على ابن رشد و على الفلسفة وعلومها هو تواصل ابن رشد مع يحيى والي قرطبة و أخو الخليفة المنصور الموحدي أثناء مرض الأخير وقيام يحيى بالدعوة لنفسه للخلافة أثناء مرض أخيه، إضافة إلى غَيْرةِ عدد من الفقهاء والعلماء من مكانة ابن رشد فسعوا بتخريب علاقته مع الخليفة عبر تأويل ما جاء في بعض كتبه وعرض تلك النصوص على الخليفة متهمين ابن رشد بالخروج على الشريعة، فأبعده أبويعقوب يوسف إلى مراكش، وتوفي فيها عام (1198 م).

أما أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري الصوفي الشافعي الأشعري، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، (450 هـ - 505 هـ / 1058م - 1111م)، فيقف على النقيض من ابن رشد موقفا مناوئا للفلسفة، إذ يقول في كتابه ( مقاصد الفلاسفة) مبيّناً منهجهم: "فإني رأيتهم أصنافاً، ورأيت علومهم أقساماً وهم - على كثرة أصنافهم - تلزمهم وصمة الكفر والإلحاد، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين، وبين الأواخر منهم والأوائل، تفاوت عظيم، في البعد عن الحق والقرب منه".

رسم تخيلي لأبي حامد الغزّالي


تناول الغزّالي الفلاسفة بالتحليل التفصيلي، وذكر أصنافهم وأقسامهم، وما يستحقون به من التكفير بحسب رأيه، وما ليس من الدين، بذلك اعتُبر الغزّالي أول عالم ديني يقوم بهذا التحليل المنهجي للفلسفة، وأول عالم ديني يصنّف علومهم التجريبية النافعة، ويعترف بصحة بعضها، إذ قسّم الغزّالي علوم فلاسفة اليونان إلى العلوم الرياضية، والمنطقيات، والطبيعيات، والإلهيات، والسياسة، والأخلاقيات، وكان أكثر انتقاد الغزّالي وهجومه على ما يتعلق بالإلهيات من الفلسفة، إذ كان يرى فيها أكثر أغاليط الفلاسفة، وقد كفّر الغزّالي فلاسفة الإسلام المتأثرين بالفلسفة اليونانية، وألّف كتاباً مخصوصاً للرد عليهم سمّاه "تهافت الفلاسفة"، وفيه هاجم الفلاسفة بشكل عام والفلاسفة المسلمين بشكل خاص، وخاصة ابن سينا والفارابي فقد هاجمهم هجوماً شديداً، فمهّد دون أن يعلم للقضاء على الفلسفة العقلانية في العالم الإسلامي، منذ ذلك الحين ولعدة قرون متواصلة. ربما كان الغزّالي معذورا في موقفه هذا ، فقد وُجد في عصر كانت الفلسفة فيه قد أثرت في تفكير الكثيرين من مثقفي العصر وسلوكهم، وأدى فهمهم السطحي للفلسفة إلى التشكيك في الدين الإسلامي والانحلال في الأخلاق، والاضطراب في السياسة، والفساد في المجتمع، فتصدّى أبو حامد الغزّالي لهم بعد أن عكف على دراسة الفلسفة لأكثر من سنتين، حتى استوعبها وفهمها، وأصبح كواحد من كبار رجالها، يقول عن نفسه: "ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم ... فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب ... ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع، وتلبيس وتحقيق وتخييل، اطلاعاً لم أشك فيه".
يرى الكاتب و المفكر عباس محمود العقاد، أن الغزّالي يُعدّ في كثير من نظرياته النفسيّة والتربوية والاجتماعية صاحب فلسفة متميّزة، وهو في بعض كتبه أقرب إلى تمثيل فلسفة إسلامية، وأنه فيلسوف بالرغم من عدم كونه يريد ذلك، وهذا ما صرّح به كثيرون من العرب والغربيين، حتى قال الفيلسوف المشهور رينان: "لم تنتج الفلسفة العربية فكراً مبتكراً كالغزّالي"، وقد رأى كثير من علماء المسلمين قديماً أن الغزّالي رغم حربه المعلنة على الفلسفة، لم يزل متأثراً بها، حتى قال تلميذه أبو بكر بن العربي: "شيخُنا أبو حامد: بَلَعَ الفلاسفةَ، وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع".
لكن، و بالنتيجة  فقد فاز فكر الغزّالي المسيّج بالأصول على فكر ابن رشد المسيّج بالعقل، و أضحى العالم العربي والإسلامي يسير منذ قرون على نهج الغزّالي بينما سار الغرب على نهج ابن رشد وطوره وتطور معه، لقد اختفت مؤلفات ابن رشد من المكتبة العربية و الإسلامية، فهي لا تدرّس حتى للطلبة الذين وصلوا إلى المستويات العليا في كليات الفلسفة، يعود ذلك بشكل أساسي إلى تبني نهج في أصول المعرفة يهمل الموقف النقدي العقلاني الذي يعتمد الشك في النص، و الذي يؤرخ للفكر خارج الإطار الفكري الجامد المتحجر.
إن الأساس الذي أرساه الغزّالي في كتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" ما زال يسيطر علي أسلوب التفكير العربي، لقد أرسى الغزّالي دون أن يشعر مبدأ التكفير الذي التقطته الجهات التكفيرية لتقول: هذا مسلم حقيقي نعترف بإسلامه وهذا غير مسلم خرج عن دين الحق؛ يستتاب، فإن لم يتب توبة نرضاها (هم و ليس الله تعالى) يُقْتَلْ، إنه نوع من ممارسة التكفير الكهنوتي.
إن ردَّ ابن رشد على هذا المبدأ التكفيري بعد ثمانين عاما من إشهار الغزّالي لآرائه في كتابه المشهور "فصل المقال فيما بين الحكمة  والشريعة من اتصال"، هو ردٌ ينم عن تفكير مختلف، لأنه يعلن للقارئ أن المؤلف سينظر بنقد صارم إلى الجهتين: الحكمة (أي الفلسفة بمفرداتنا المعاصرة) من جهة والشريعة من جهة أخرى، ليقارب المشكل مقاربة نقدية منصفة، دون أن يقول هذا حق يجب أن نتقيد به ونتبعه وهذا باطل علينا أن نجتنبه، فالموقف الفلسفي لا يتبني هذا النوع من فصل المقال .
وباختصار نستطيع القول أن الغزّالي يضع حدا للتفكير ويكفِّر في النهاية من يختلف معه في الرأي، وهذا ما نرى نتائجه الآن على أرض الواقع حيث تقوم الحركات التكفيرية بمصادرة حرية الرأي و المعتقد، لتقوم هي بمحاسبة الناس على تصرفاتهم الشخصية قبل السياسية و الاجتماعية و العامة، و لتوزع صكوك الغفران على أصحاب الميمنة وسلاسل الجحيم على أصحاب المشأمة بتكفير تفكيرهم.
إنهم يختارون لنا مقاطع من نصوص مقدسة اصفرت أوراقها بفعل مئات السنين ليلزمونا بالإستراتيجية (السليمة) للسيطرة على العالم و إقامة دولة شهواتهم من السبي و الحريم و الأحلام المريضة منصبين أنفسهم أربابا من دون الله، ثم يتهمون من يخرج عن استراتيجيهم الخرقاء بالكفر و الزندقة بل و يقيمون عليه حد الحرابة (قطع الأيدي و الأرجل من خلاف) أو القتل في بعض المساحات الجغرافية الضيقة الهاربة من الزمن و التاريخ.
إن هذا النهج في التكفير يعني أن نقيم على العقل مأتما و عويلا كما يعني نهاية التطور الذي يقوم على النقد العلمي.
ينطلق ابن رشد، من فهمين للقرآن واحد للعامة (الجمهور) وآخر للخاصة (العلماء) و يأخذ على الأشاعرة* إنكارهم للأسباب و القوى الطبيعية. و برأي ابن رشد أن الكليات لا غنى لها عن الجزئيات التي هي تجريد لها، بمعنى أن قوانين الطبيعة التي تحكم العالم هي إرادة الله، ويرى ابن رشد، استنادا إلى آيات القرآن، أن الصنع جاء من مادة أولى وليس من عدم محض، و يؤكد على قدم الزمان لا حدوثه.
منعطف آخر هام يفترق عنده ابن رشد عن الغزّالي، فابن رشد لا يخشى ما يصفه اليوم بعض الكتاب العرب و المسلمين بالفكر الوافد وهو الفكر الذي حاول الغزّالي إثبات فشله في كتابه تهافت الفلاسفة وكان يعني أرسطو وغيره من الفلاسفة الإغريقيين الذين كانوا يمثلون في عصرهم أرقى سمات الفكر و الحكمة، ابن رشد لم يتردد طبعا في الاستفادة منهم، فربما لم يكن أحد يعرف آنذاك أرسطو أفضل من ابن رشد، و لو سأل أحدهم ابن رشد إن كان يخشي أن يخسر هويته إذا قرأ أرسطو (الكافر) لأخذه العجب من السؤال.
من المسائل التي كان لابن رشد الريادة فيها موقفه من المرأة وتبوئها المناصب الهامة كالقضاء والحكم، وهو وإن كان شارحاً لأفلاطون ومدينته الفاضلة فإنه لم يعترض على كثير من آراء أفلاطون في مسألة المرأة. يقول ابن رشد في كتابه "جوامع سياسة أفلاطون" وهو من الكتب التي فُقد أصلها العربي: "تختلف النساء عن الرجال في الدرجة، لا في الطبع، وهن أهل لفعل جميع ما يفعله الرجال من حرب و فلسفة ونحوهما، ولكن على درجة تختلف عن درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان، كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض أمصار إفريقية على استعدادهن الشديد للحرب؛ وليس من الممتنع وصولُهن إلى الحكم في الجمهورية يشير إلى (جمهورية أفلاطون) ويضيف: وبالمثل، فبما أن بعض النساء ينشأن وهن على درجة من التفوق والفطنة فليس يمتنع أن يكون بينهن الفلاسفة والحكام. ولكن بما أن الناس دأبوا على الاعتقاد في أن هذا الصنف نادراً ما يوجد بينهن، فإن بعض الشرائع لا تقبل المرأة في منصب الإمامة، أعني الإمامة العظمى (أي الخلافة)".

أمضى ابن رشد عمره مدافعاً عن فكرة جوهرية تقول بتوافق العقل مع النقل، ولعل كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" يعد من أهم المراجع الفكرية الفلسفية في التاريخ العربي، حيث سعى ابن رشد لإثبات تنزه الشارعِ عن الجنون وبالتالي فلا مكان للأحكام اللاعقلانية في الدين والحياة. ومن المفهوم قيام حرب شرسة عليه وعلى أفكاره و أن يعتبرها تجار الدين خطراً يهدد مصالحهم ونفوذهم و نزعتهم للسيطرة على الدهماء تحت عباءة الدين.
لقد كان الحقد الذي تعرض له ابن رشد من قبل معاصريه من الفقهاء كافياً لتأليب الخليفة المنصور الموحدي عليه و وضعه في الإقامة الجبرية، ومنع كتبه من التداول. لقد تم الحكم على ابن رشد و أفكاره بالتكفير و أعدم كلاهما أحياء ، وهكذا سبق العرب أقرانهم الأوروبيين في مسألة التكفير وحرق الكتب عندما قام الإسبان بعد سقوط الأندلس بإحراق الكتب العربية في ساحات غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها بحجة "التطهير" وتم إجبار العرب على تغيير ديانتهم ومنعهم من استعمال اللغة العربية في الكتابة والقراءة والحديث.
لقد كفر ابن رشد بالفعل بتغييب العقل، كفر بالجهل وعمى البصيرة ولم يقبل بالاستخفاف بعقول الناس.
ورغم أن نكبة ابن رشد لم تدم طويلاً حيث عفا الخليفة المنصور عنه عام 595 هجرية (1198 ميلادية) إلا أنه توفي في العام نفسه عن عمر يناهز خمسة وسبعين عاماً قضاها دفاعاً عن الحرية الإنسانية وعن مكانة العقل البشري وعن مكانة الفلسفة بين العلوم ودورها في المجتمع.
كان ابن رشد بالفعل رائد العقلانية العربية بلا منازع إلا أنه دُفن حياً ولم يُعِد إحياءه إلا الأوروبيين بعد وفاته بأكثر من ثلاثة قرون وكانت كتبه تُدرّس في الجامعات الأوروبية في الوقت الذي كان العرب (و مازالوا) يعيشون أحط عصورهم عبر تغييب العقل وتغليب النقل ومنع الاجتهاد.
ولئن كنا نعيش اليوم أصعب ظروف التحول التاريخي في المنطقة العربية، إلا أننا أحوج ما نكون إلى إعادة إحياء فلسفة التنوير وريادة العقل الذي تم تحييده تماماً، إن الكثير من قوى الظلام القريبة والغريبة لا تريد لهذا العقل العربي أن يتحرر، لأن يقظة هذا العقل تعرّي تلك القوى من جبروتها المزيف والمختبئ وراء عباءة الدين من جهة ووراء عباءة المصالح الاستعمارية العالمية الكبرى من جهة أخرى.

تمثال ابن رشد في قرطبة-اسبانيا


مراجع:
- ابن رشد الحفيد ،فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال- دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة (القاهرة: دار المعارف، 1969).
-
ابن رشد الحفيد ،جوامع سياسة أفلاطون- ترجمة: فرانز روزنتال (كمبردج، 1969).
-المراكشي محمد بن عبد الملك، (الذيل والتكملة)- تحقيق: محمد إحسان عباس (دمشق: دار الثقافة، 1973).
-
محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية- محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد- (بيروت: - مركز دراسات الوحدة العربية، 2000).
-
محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي- (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991).
-
محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي- (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1990).
-الموسوعة العالمية على الشبكة العنكبوتية (ويكيبيديا)
توضيح:
*. الأشاعرة (نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري): هم جماعة من أهل السنة، لا يخالفون إجماع الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) ولا يعارضون آية واحدة من القرآن ولا الحديث، وما ثبت عن الصحابة والعلماء الأعلام، ولا يكفرون أحداً من أهل القبلة، وتعتبر منهجاً وسطاً بين دعاة العقل المطلق وبين الجامدين عند حدود النص وظاهره، رغم أنهم قدموا النص على العقل، إلا أنهم جعلوا العقل مدخلاً في فهم النص، كما أشارت إليه آيات كثيرة التي حثت على التفكير والتدبر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم