معارج السماء.

عُني عالم الطبيعة (إسحاق نيوتن) سنين عديدة بظاهرة السقوط الحر للأجسام تحت تأثير الثقالة الأرضية، إنها ظاهرة بسيطة ومعقدة في آن واحد؛ كيف تتخذ الأجسام في سقوطها الحر طريقاً يتجه إلى مركز الأرض كيفما قذفت، وأينما كانت؟ هل هناك رسالة يتلقاها الجسم ليهوي في اتجاه المركز؟ و ما هي هذه الرسالة؟ بل ما هو الوسط الذي تنتقل خلاله؟ هذا ما لم يستطع نيوتن الإجابة عليه.
مضت بعد ذلك ثلاثمئة سنة حتى جاء (ألبرت اينشتاين) ليتعامل مع هذا اللغز البسيط المحيِّر ثانية، لقد بينت التجارب أن الهواء ليس الوسط الناقل للجاذبية، فالأجسام بسقوطها الحر، تخضع للقوانين نفسها سواء على الأرض، أو القمر[1]، أو في الفضاء الخارجي.
يبدو أن أجزاء الكون تتماسك مع بعضها تماسكاً تاماً لا صدع فيه عبر قوى هائلة غير مرئية نسميها قوى الجاذبية و بذلك يبدو كصرح عظيم أحكم بنيانه و ارتص ببعضه دون وسائط مادية مرئية بالرغم من أن أجزاءه تخضع لحركات منتظمة محسوبة بدقة، بل لقد استوحينا دقة الحساب من حركة الشمس و القمر و غيرهما من الأجسام السماوية.

لقد رأى (آينشتاين) كما يرى العلم الحديث الكون منظومة واحدة متحركة ومتماسكة في الوقت نفسه: الكواكب السيارة تدور حول الشمس، والشمس تجري في فلك حول محور مجرتنا (درب التبانة) متمة دورتها كل (200) مليون سنة، و المجرة بمليارات نجومها تسبح أيضاً في الفضاء مبتعدة عن باقي المجرات (أو الجزر الكونية)، كل ذلك بانتظام رائع، يخضع لقانون الجاذبية التي لا نراها، والتي بقيت لغزاً محيراً حتى يومنا هذا. الفضاء الخارجي بين الأجرام السماوية كما نعلم اليوم يكاد يكون خلاء مطلقاً، فهو لا يحوي أكثر من ذرة هيدروجين في كل (16) سنتيمتر مكعب منه تقريباً، فكيف يمكن للجاذبية أن تنتقل في فراغ يكاد يكون مطلقاً و نحن نلمس آثارها في كل جزء من أجزاء الفضاء؟ لقد تخيل نيوتن أن الجاذبية تنتشر في الفضاء عبر خطوط مستقيمة لا مرونة فيها، بالعكس من ذلك فقد تخيل آينشتاين أن الفضاء تشغله حقول جاذبية مرنة تصنعها الأجسام السماوية التي تسبح خلاله

حسب آينشتاين فإن الفضاء الذي تسبح فيه الأجسام السماوية عبارة عن حقول جاذبية تتمتع بمرونة تجعلها تتقعر أمام الأجسام السماوية التي تمر خلاله، ويزداد التقعره بازدياد كتلة الجسم المعتبر؛
أما نيوتن فيعتبر الفضاء ثابتا غير قابل للتقعر.

إن الإجابة على هذا السؤال تعني الكثير من الناحية العلمية، وقد يتوقف مستقبل الإنسان في الكون عليها، فالارتحال في أعماق الكون سيعتمد أساساً على دراسة طبيعة الفضاء، والتعامل معها حتى يتسنى لإنسان المستقبل أن يجتاز مسافات الكون السحيقة في زمن معقول نسيباً.
لقد قلب (آينشتاين) بنظريته الأولى التي جاء بها، والتي سميت (النسبية الخاصة)، كل المفاهيم التي كانت سائدة في وصف الكون قبله، ولعل أغرب ما جاءت به هذه النظرية التي نشرت عام (1905) هو تمدد الزمن، لقد دحضت نسبية آينشتاين نتائج أبحاث نيوتن في أن الزمن يجري بمعدل ثابت في جميع أرجاء الكون، وبينت أن الزمن يتباطأ بالنسبة للأجسام التي تتحرك بسرعات فائقة، في الوقت الذي تتقلص فيه أبعاد هذه الأجسام في اتجاه حركتها، وعندما يبلغ الجسم سرعة الضوء، يتوقف الزمن بالنسبة له، وتنكمش أبعاده لتصبح صفراً؛ إلا أن الوصول إلى سرعة الضوء غير ممكن عمليا، فهو يتطلب بذل طاقة عظيمة لا نهاية لقوتها.
هذا ليس وهماً، بل وقائع يمكن التحقق منها بالقياس[2]، إن سفينة الفضاء التي تنطلق بسرعة تبلغ 99% من سرعة الضوء تتباطأ عقارب ساعاتها الزمنية سبع مرات نسبة إلى الزمن الذي يجري على الأرض، أما طولها فيتقلص سبع مرات عن طولها الحقيقي بالنسبة لمن يراقبها من الأرض أيضاً، تبذل محركات السفينة سبعة أضعاف طاقتها الاعتيادية في هذه الحالة لدفع السفينة إلى الأمام، لو قيض لركاب مثل هذه السفينة مراقبة الأحداث على الأرض، لوجدوا أن كل الأحداث قد تباطأت سبع مرات، يمكن تفسير ذلك بأن عمر ركاب السفينة قد امتد سبعة أضعاف عمرهم الحقيقي.
إذا سُرِّعت السفينة أكثر ولنقل لتبلغ سرعتها 99،9999% من سرعة الضوء، فإن الحوادث ستبدو للمراقب من السفينة وقد تباطأت ملايين المرات، أما إذا بلغت المركبة سرعة الضوء (بفرض أن هذا ممكن)، فإن الزمن سيتوقف بالنسبة لراكبي السفينة، وبكلمات أخرى، فإن رحلتهم إلى أية بقعة من بقاع الكون ستكون آنية.
ماذا لو افترضنا أن سرعة الضوء ليست سقف السرعة في عالمنا الطبيعي و أن سفينة فضاء افتراضية قد تجاوزت بطريقة ما سرعة الضوء؟ في هذه الحالة (الافتراضية) و وفقا لمعادلات آينشتاين سيأخذ الزمن بالتراجع، أي أن الحوادث التي تجري على الأرض في اتجاه المستقبل، ستأخذ لها طريقاً في الماضي (بالنسبة للركاب)، وهذا ضرب من ضروب المستحيل لأنه يخالف جميع أصول المنطق، ومبادئ العلية أوالسببية التي تجري الحوادث وفقها في عالمنا المادي، إنه يوقعنا في تناقضات توضحها القصة الخيالية التالية:

يُحكى أن سيداً اسمه ضوء
قد سافر يوماً بسرعة أكبر من سرعة الضوء
سافر وفي ذهنه نتائج النظرية النسبية
فعاد في الليلة السابقة ليوم السفر
مخترقاً في ذلك مبدأ العليّة
وعندما عاد في الليلة السابقة لموعد السفر
وجد نفسه، والتي ربما لا تكون نفسه، تستعد للسفر
فأبرم موعداً معها، وعقد العزم على أن يعيد النظر
وعندما عاد ثانية في الليلة السابقة لموعد السفر
وجد نفسه وقد أصبحت نُفُوساً كُثُرْ
فلم يكن أمامه إلا أن يصاب بالذّعرْ

لقد اختُرق مبدأ العليّة في هذه المغامرة الخيالية عندما افترضنا أن الرحلة قامت بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فالمنطق يقضي بأن يقع السبب قبل النتيجة، إلا إذا افترضنا وجود عددٍ لا متناه من العوالم الطبيعية تجري أحداثها بالتوازي معا، و لكن بأسباب مختلفة في كل مرة، كأن يغير السيد ضوء موعد سفره بطريقة مختلفة في كل عالم، فتظهر نتائج التغيير منفردة على عدد لا ينتهي من المرايا، لو اطلعنا على أخيلتها جميعا مرة واحدة لرأينا ما حدث و ما يحدث و ما سوف يحدث في آن واحد، وهذا ما وقع للسيد (ضوء) في الحكاية السابقة، و كان سببا في ذعره.
لم يقتنع آينشتاين صاحب النسبية نفسه، بالرغم من كثرة معجبيه، بأن نظريته قد حلت جميع ألغاز العالم الطبيعي، فأمضى بقية عمره في البحث عن نظرية تنظم العلاقة بين جميع أحداث الكون، نظرية يمكنها أن تفسر في آن واحد ما يجري في أدق الأجزاء المادية، كالذرة مثلاً، وفي أكبر الكتل المادية كالنجوم العملاقة، لقد بحث عن نظرية توحد قوانين الكون المادي سماها (نظرية المجال الموحَّد- Unified Field Theory). تذكرنا أمنية آينشتاين بما اعتقده المركيز (لابلاس) الرياضي الفرنسي الشهير في المئة الميلادية الثامنة عشرة، من أن جميع حوادث الكون تقع من قبل عقل مدبر يعلم آنياً بكل ما يجري في الكون، لأن الماضي كالحاضر كالمستقبل بالنسبة له، كل ما جرى، وما يجري، وما سوف يجري مكشوف له علماً يقينياً آنياً لا يشوبه شك.
لقد اعتقد آينشتاين بهذا التدبير المحكم لحوادث الطبيعة، وتمنى لو استطاع أن يعكس هذا التدبير الشامل في علاقة رياضية تفسر كل ما يجري في العالم الطبيعي، مثلاً: لماذا يتخذ الضوء طبيعة مميزة بين كل ما نعرفه من ظواهر الطبيعة؟ لماذا تتناقص أبعاد الجسم المتحرك بسرعة قريبة من سرعة الضوء وتزداد كتلته بشكل طردي يتناسب مع السرعة، ولماذا... ولماذا...؟
من الممكن القول: إن الجاذبية مسؤولة عن جميع هذه الظواهر. إنها القوة الخفية التي حيرت العلماء و الفلكيين عبر السنين دون أن تكشف عن سرها وطريقة عملها، فما هي الجاذبية؟ نعود إلى السؤال الذي بدأنا معه حيرتنا من جديد!
انتقد البعض قصة  التوأمين الخيالية، و ملخصها أن التوأم الذي يسافر في الفضاء بسرعة 90% من سرعة الضوء سيعمّر أكثر من شقيقه الذي بقي على الأرض، بحجة أن الأرض تبتعد عن مركبة الفضاء كما تبتعد المركبة عن الأرض، فيمكننا والأمر كذلك اعتبار التوأم الأرضي مسافراً على سفينة فضاء أيضاً هي الأرض، مبتعدا عن شقيقه بالسرعة نفسها، أو بمعنى آخر، لا يوجد مبرر لاعتبار الأرض مرجعاً ثابتاً تنسب إليه حركة الأجسام.
لقد أجاب آينشتاين على مثل هذه الانتقادات بشكل قاطع عندما قال أن الأرض تنتظم حركتها مع حركة الكون كله، فهو (أي الكون) جميعه بنيان واحد مرصوص بفعل جاذبيته الذاتية، أما مركبة الفضاء فتتحرك بفعل التسارع الذي تكتسبه من دفع محركاتها: إنها تخترق الجاذبية الكونية بقوة الدفع النفاث لمحركاتها، ولو توقفت محركاتها عن العمل، لعادت وهوت في بؤرة حقول الجاذبية، لتنتظم في حركتها مع الكون من جديد. إن السبب في تمدد الزمن بالنسبة للمركبة ليس سرعتها، بل تسارعها الناتج عن قوة الدفع التي بذلتها حتى وصلت إلى هذه السرعة، إنه ليس القوة فقط بل ما أدت إليه هذه القوة من ازدياد السرعة المتكرر في كل واحدة من الزمن خلال انطلاقها، فلكل جسم عطالة ذاتية لابد من التأثير فيها بقوة خارجية حتى يتسارع، هذه العطالة تشبه الجاذبية في السلوك الذي تمارسه على الأجسام المادية، ولكن بطريقة معاكسة و هذا هو جوهر النظرية النسبية العامة التي صدرت عام 1916 باختصار.*
لقد استوقف آينشتاين مفهوم العطالة طويلاً، ثم خرج بنتيجة محيرة هي أن العطالة و الجاذبية ما هما إلا وجهان لعملة واحدة، لذلك نجد سلوك الاثنتين متماثلاً، فلو تركنا كرتين إحداهما من حديد و الأخرى من خشب تسقطان سقوطاً حراً تحت تأثير جاذبية الأرض، لارتطمتا بالسطح في الوقت نفسه بعد أن تجتازا المسافة نفسها.  ما السبب إذاً في أن الجاذبية تؤثر في الأجسام الخفيفة و الثقيلة بالطريقة نفسها؟ الواقع أن الكرة المعدنية، وفقاً لمفهوم آينشتاين، تسعى للسقوط إلى الأرض بسرعة أكبر من سرعة الكرة الخشبية، لكن عطالتها (الأكبر) تعيق تسارعها، في الوقت الذي تخف فيه الإعاقة بالنسبة للكرة الخشبية لقلة عطالتها، فتصل الاثنتان إلى سطح الأرض معاً.
عموماً فإن كلا من الجاذبية و العطالة، تعملان بشكل متعاكس، بحيث تكون قوة الجاذبية مساوية تماماً لقوة العطالة، ومعاكسة لها في الاتجاه.
لو أسقطنا الكرتين في مثالنا السابق من ارتفاع شاهق عن سطح الأرض، لنقل من ارتفاع (500) كيلومتراً مثلاً، فإنهما لن ترتطما بسطح الأرض، بل ستدخلان في مدار حولها كما يحدث للأقمار الصناعية، كذلك فإن جميع الأجسام تتخذ مساراً أحدباً أو أعرجا عندما تدخل في حقول الجاذبية، هذا التحدب يظهر جلياً أحياناً عندما يكون المسار طويلاً (كمسار الأقمار الصناعية، والقذائف...) ولا يظهر جليا أحياناً أخرى إذا كان المسار قصيراً، كما في سقوط الكرة الخشبية و المعدنية مباشرة إلى الأرض.
هذه المسارات الحدباء أو العرجاء التي تتخذها الأجسام التي تهوي بتأثير الجاذبية، أو  التي ترسمها الأجرام السماوية في أفلاكها هي الرسم الهندسي لحقول الجاذبية الكونية.
إن المعراج هو الشكل الهندسي الذي يستلزم الحد الأدنى من الطاقة لرسمه، فالحوادث الطبيعية تجري دائماً في اتجاه المقاومة الأدنى: الكهرباء تسري في السلك ذي المقاومة الأدنى، الماء تجري في الأنبوب ذي الاحتكاك الأقل، الإلكترونات تتخذ مواقعها حول النواة في الذرة بدءاً من مستويات الطاقة الأدنى، فالأعلى، وهكذا...
يصف نيوتن الجاذبية، بأنها القوة التي تدفع أو تسحب الأجرام السماوية في مداراتها، أما آينشتاين، بالاشتراك مع زميله البولوني (هيرمان مينكوفسكي) فقد تقدم بتفسير مختلف للجاذبية، هذا التفسير الأخير هو المقبول لدى جمهرة العلماء في يومنا هذا، يحمل مفهوم آينشتاين الجديد عن الجاذبية بين ثناياه تعبيراً جديداً على لغة العلم، إنه البعد الرابع للعالم، إنه الزمن، كلنا نعلم أنّ للعالم، أو للموجودات الطبيعية ثلاثة أبعاد هي: الطول و العرض و الارتفاع، للعالم أيضاً بعد رابع غالباً ما ننساه أو نغض الطرف عن ذكره لأننا نادرا ما نحتاجه في حياتنا العملية على الأرض، هو الزمن.
تؤكد النظرية النسبية أن الزمن بعد طبيعي يسلك سلوك الأبعاد الثلاثة الأخرى، وقد درجت الأدبيات المعاصرة على استعمال كلمة (زمكانSPACE-TIME – ) للتعبير عن الأبعاد الأربعة معاً التي ترسم حدود العالم الطبيعي، لقد أحالت نسبية آينشتاين و مينكوفسكي الأفكار التقليدية حول الجاذبية، التي جاء بها نيوتن إلى متاحف التاريخ، وبينت أن الأرض في دورانها حول الشمس لا تخضع لقوة جاذبة أو طاردة كما اعتقد نيوتن، بل إن الشمس تؤدي إلى تحدب الفضاء حولها بفعل كتلتها المادية الكبيرة، أي أن الشمس تصنع رواقاً أحدب أو معراجا تدور فيه الأرض حولها.

الشمس تصنع رواقاً أحدب أو معراجا تدور فيه الأرض حولها.

تبدو فكرة تحدب الفضاء غامضة ومذهلة، لأنها غير مألوفة في حياتنا الأرضية، لكننا نجد كل أجرام السماء مشغولة بصنع عدد لا ينتهي من هذه المعارج، وهذا هو جوهر النظرية النسبية.
تبين النظرية النسبية أن ما تعلمناه من أفكار تقليدية حول الخطين المتوازيين اللذين مهما امتدا لا يلتقيان، أو المثلثات التي مجموع زواياها لا يمكن أن يتجاوز (180) درجة، هي أفكار خاطئة إذا تعاملنا معها بدون تعريف أو تحديد، لأن جميع هذه الأفكار تعتمد على بديهية مفادها أن أقصر مسافة بين نقطتين هي الخط المستقيم الذي يصلهما، لكن النظرية النسبية تبين أن لا وجود للخطوط المستقيمة في الكون، فكل خط يرسم معراجا إذا مُدّد بما فيه الكفاية، ولو انطلق شعاع ضوء في الكون فإنه سيتخذ مساراً دائرياً ليعود إلى النقطة التي انطلق منها جديد.
تأكدت نتائج النظرية النسبية أول مرة عام (1919) عندما ترأس فلكي شاب يدعى (آرثر أدينغتون) بعثة علمية إلى الشواطئ الإفريقية الغربية،  كانت مهمة البعثة دراسة انحراف أشعة النجوم البعيدة عن مسارها عند اقترابها من مجال جاذبية الشمس، ومطابقة هذا الانحراف مع النتائج التي أتت بها النظرية النسبية، مستفيدا في ذلك من كسوف الشمس الذي كان يتوقع حدوثه في الساعة الثانية و الربع وفق التوقيت المحلي ليدوم خمس دقائق فقط.  هطل المطر غزيراً صبيحة يوم الكسوف، بينما كان (أدينغتون) يسعى جاهداً لتركيب آلات التصوير، وانساب الماء داخل خيمته، مهدداً بإتلاف الفيلم، و فجأة انقشعت الغيوم في لحظة مناسبة قبل الكسوف، فسارع (أدينغتون) إلى التقاط ست عشرة صورة لنجم ظهر في السماء على حافة الشمس، لكن الغيوم المبعثرة في السماء تسببت في تلف خمسة عشرة صورة من الصور الملتقطة، ونجت الصورة السادسة عشرة، فكانت لقطة رائعة لمجموعة من النجوم الساطعة أثناء الكسوف، فُحصت الصورة بدقة للتأكد فيما إذا كانت النجوم قد بدت في مواقعها الفلكية المعروفة أم أنها انحرفت في الصورة ظاهرياً عن هذه المواقع بفعل انعراج الضوء الصادر عنها لدى مروره بحقل جاذبية الشمس وفق ما تنبأ به آينشتاين، الذي كان يلقي إحدى محاضراته في جامعات هولندا، فدخل عليه أحد زملائه الأساتذة ملوحاً ببرقية في يده، إنها من (أدينغتون) تحمل النبأ الذي ينتظره بفارغ الصبر، نعم لقد ظهرت النجوم في الصورة منحرفة عن مواقعها الفعلية بمقدار (1.7) ثانية من القوس الزاوي، أي ضمن المجال الذي تنبأ به آينشتاين، ودوّت في قاعة المحاضرات عاصفة تصفيق من مئات العلماء و الباحثين والأساتذة، لقد تحققت نبوءة علمية من جديد.

رسم توضيحي لتجربة أدينغتون و كيف بدا النجم للراصد في مكانه غير الحقيقي نتيجة انعراج ضوئه بفعل جاذبية الشمس

أدهشت هذه الأنباء جمهور أوروبا المنهك بآثار ونتائج الحرب العالمية الأولى، وأحيت فيه روح التفاؤل والأمل  بالمستقبل، لكنها لم تنج من كثير من النقد والتجريح، مثلها في ذلك مثل غيرها من النظريات والأفكار التي تقلب المفاهيم التقليدية رأساً على عقب، من ذلك ما ورد في (النيويورك تايمز) عام 1928:
" إن الفيزياء الحديثة تحاول إثبات مالا يمكن لأكثرنا تصديقه ... لقد صدر العديد من الكتب حول موضوع النسبية، في محاولات جريئة لتفسيرها، وقد نجحت هذه المحاولات إلى حد ما في إضفاء جو من العقلانية الظاهرية على الأقل حول المواضيع التي أفرزتها هذه النظرية، لكنك ما إن تركن جانباً ما قرأت، حتى تعود إلى الضياع".
 لكن ما يتفق عليه الجميع اليوم هو أن آينشتاين قد قدم إلى العالم في نظريتيه العامة والخاصة، منطقاً محكماً لا يقبل الجدل، أرغم ألدّ خصومه على أن يقبل به، أما على صعيد الواقع العملي، فتتأكد صحة النظرية الآن يوماً بعد يوم [3].
من أهم نتائج النظرية النسبية أيضاً، نظرتها للعلاقة بين المادة والطاقة، وأنهما وجهان لعملة واحدة، إذ يمكن وفقاً للنظرية تحويل الطاقة إلى مادة، أو تحويل المادة إلى طاقة وفق العلاقة الشهيرة التي تسمى باسم آينشتاين: (الطاقة =  الكتلة × مربع سرعة الضوء)، هذه المعادلة تعني بكل بساطة أن كتلة ضئيلة جداً من المادة يمكنها أن تتحول إلى طاقة هائلة، أو أن المادة ما هي إلا حالة مركزة جداً للطاقة، لقد بشرت هذه المعادلة بمصدر للطاقة لا ينضب يمكن تسخيره في خدمة المدنية، وكانت الأساس الذي قامت عليه التفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، لكنها وللأسف فهي المعادلة نفسها التي أدت إلى صناعة القنابل الذرية و النووية التي تهدد مستقبل المدنية بالفناء.
------------------------------------------------------
[1]. أجريت التجربة على سطح القمر (حيث لا غلاف غازي يعيق الحركة) من قبل طاقم (أبولو 15) في آب 1971، عندما أسقطت ريشة طائر، ومطرقة جيولوجية معاً من نقطة واحدة فارتطمتا بسطح القمر في الوقت نفسه.
 [2]. في أكتوبر 1971 قام العالمان جوزيف هافليه وهو فيزيائي و ريتشارد كتينغ وهو عالم فلك باختبار لتمدد الزمن مع ازدياد السرعة وفق ما جاءت به النظرية النسبية، فوضعا ساعتين ذريتين متواقتتين على متن طائرتين تجاريتين نفاثتين حلقت احداهما  شرقا، و الأخرى غربا، و قارنا الوقت الذي استهلكته كل من الطائرتين في رحلتها مع الوقت الذي سجلته ساعتان متبقيتان متواقتتان معهما تركتا في مرصد البحرية الأمريكية بعد أن انتهت رحلة الطائرتين، فوجد أن الزمن قد اختلف بين مجموعات الساعات الثلاثة بما يتفق مع تنبؤات النظرية النسبية.
[3]. من ورقة الأستاذين: (باورز و ويلر) إلى أكاديمية العلوم في تورنتو في 16 أيلول 1969 بمناسبة إحياء ذكرى العالم (مندلييف) مكتشف الترتيب الدوري للعناصر الكيميائية.
*.  كتب العالم (ابن سينا) في مخطوطة محفوظة في المكتبة المركزية في أسبانيا – مدريد تبحث في العلوم الطبيعية، رأيه في الحركة و السكون جاء فيها: "يبقى الجسم ساكناً أو يتحرك حركة مستقيمة منتظمة شرط ألا يؤثر عليه أي عامل خارجي،" و هو المبدأ الأول لنيوتن في التحريك، كتب هذه العبارة في أوائل المئة الحادية عشرة للميلاد بينما لم يأت (نيوتن) بمبادئه في التحريك إلا في غضون المئة السابعة عشرة، من هنا يبدو جلياً التقدم العلمي المدهش الذي شهدته المدنية الإسلامية في أوج ازدهارها. المرجع: الدكتور مارسيل داغر: النسبية من نيوتن إلى آينشتاين، من منشورات وزارة الثقافة و الإرشاد القومي في الجمهورية العربية السورية – الصفحة (44).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم