ما وراء الكون


في المقطع التالي المقتطف من قصة (نجوم كالغبار – Stars Like Dust)، و هي قصة من الخيال العلمي تتحدث عن مستقبل الإنسان في الكون، يخاطب قبطان سفينة الفضاء طاقم السفينة بعد أن غادرت الأرض قائلاً:
" أنا القبطان أتحدث إليكم، نستعد الآن للقفزة الأولى بمركبتنا كي ننتقل من منظومة الزمكان (العالم الطبيعي)، ونلج في ما وراء الكون – Hyper Space-، إنه عالم لا نعرف عنه إلا القليل بعد، هذا العالم لا معنى للزمان أو المكان أو لقوانينا الطبيعية المعروفة فيه ، إن نقلتنا هذه ستكون كالانتقال بين محيط وآخر عبر مضيق طبيعي على الأرض بدلاً من الالتفاف حول قارة بأكملها، ستصادفون خلال ذلك بعض الإزعاج المؤقت، أرجو أن تبقوا هادئين".
وما هي إلا لمحة بالبصر، شعر الملاحون خلالها بجوفهم وعظامهم تتخلع من أماكنها، حتى اقتربت المركبة من مركز المجرة*، لقد تجاوزت خمسين ألف سنة ضوئية في قفزة آنية واحدة، وأخذ الملاحون ينظرون بفضول إلى السماء وقد تغير مشهدها.
لم يكن الكاتب يعلم بوجود ما وراء الكون عندما كتب هذا المقطع في الخمسينيات  من القرن العشرين، ولعل إحساسه العلمي هو الذي دفعه إلى الاعتقاد بوجوده، أما اليوم فقد اقتنع كثير من العلماء بوجود عالم آخر وراء عالمنا هذا، قد تبدو تسمية هذا العالم غريبة، لكن المقصود بها أغرب، إنه عالم ليس كمثله شيء في عالمنا الطبيعي المعروف، إنه عالم موجود بالتوازي مع عالمنا، تحكمه ربما قوانين لا نعرفها، يدعى هذا العالم أحياناً بالفضاء السامي (Super Space)، وقد ولدت هذه التسمية في نشرة علمية هامة صدرت عام **1962، شارك فيها البروفسور ويلر، أحد مخترعي القنبلة الهيدروجينية الذي تعمق على ما يبدو أكثر من غيره من الرياضيين الطبيعيين في فهم معادلات النظرية النسبية لآينشتاين، فقرأ بين سطورها ما لم يتمكن غيره من قراءته.
يعتقد البروفسور (ويلر) أن (ما وراء الكون)، أو (الفضاء السامي)، هو عالم فسيح له مداخل ومخارج موجودة في كل نقطة من نقاط عالمنا الطبيعي:  في الفضاء بين الجزر الكونية (المجرات)، وبين النجوم، وبين عناصر المجموعة الشمسية، إنه يقبع في الفضاء الذي يلفه الكون الأحدب من كل جانب، لذلك فإن الارتحال في الكون عبر الطرق الكونية الطبيعية يستغرق دهوراً طويلة قد تبلغ مليارات أضعاف عمر الإنسان نظرا للمسافات الهائلة التي تفصل النجوم و الجزر الكونية عن بعضها، أما اختراق الكون إلى ماورائه من ثقوب معينة في الفضاء، فيؤدي إلى النفاذ من نقطة من عالمنا المادي إلى أخرى في قفزة آنية واحدة كما حدث مع سفينة الفضاء التخيلية التي تحدثنا عنها في البداية.
لم يعد هذا خيالاً علمياً أو تهيؤات بعيدة عن الواقع، بل لدينا الآن ما يثبت بكثير من الموثوقية  وجود (ما وراء الكون).
إن فهم ماهية ما وراء الكون أمر في غاية الصعوبة، والتفكير به لا طائل بعده، إنه حيث يتوقف (الزمان)، هناك تنضغط حوادث بلايين السنين في هنيهة لا تذكر، و لا يعود للمكان أي معنى.
قد يبدو وصفنا لما وراء الكون غامضاً، لكن ثقتنا بوجوده هي من أعظم منجزات الفيزياء الكونية المعاصرة، إن وجوده يحل جميع معضلات العلوم الكونية الحديثة، أما النظريات التي تتجاهل وجوده، فستقع عاجلا أم آجلا في معضلة تفسير الكثير من الحوادث الكونية،
لم يكن وجود (ما وراء الكون) حتى عام (1970) إلا فرضاً نظرياً بحتاً، لم يجد لنفسه الدليل التجريبي، وفي شباط من العام المذكور حدث ما لم يكن بالحسبان عندما نشرت إحدى كبريات المجلات العلمية: (PHYSICAL REVIEW LETTERS) تقريراً للعالم الفيزيائي (جوزيف ويبر)- من معهد (برينستون) للدراسات المتقدمة – تحت عنوان (تجارب إشعاع الجاذبية – Gravitational Radiation Experiments)، تضمن مقال (ويبر) تجربة متزامنة أجريت على جهازين يبعدان (966) كيلومتراً عن بعضهما، وضع أحدهما في (ميريلاند) والآخر في (شيكاغو) في الولايات المتحدة فسجل الجهازان أمواجاً لطاقة كونية تنبعث من أكثر النقاط ازدحاماً بالنجوم في المجرة، لم تكن هذه الأمواج مستمرة كتلك التي تنبعث عادة من النجوم و الكواكب العملاقة، بل أتت على شكل ومضات عنيفة من أماكن لا  توجد فيها أجرام سماوية، ثم انقطعت، أفاد تقرير (ويبر) أن مثل هذه الموجات كانت قد سجلت مرة على الأقل من نقاط مختلفة من مجرتنا.
أدهش تقرير (ويبر) علماء الكون، فمثل هذه الأمواج لا تصدر إلا عن حوادث كونية بالغة العنف، واستنتج هؤلاء أن نقاط البث هذه ما هي إلا بؤر ذات جاذبية هائلة تقع في السماء، وتبتلع كل ما يقترب إلى جوارها من أجسام سماوية، بما في ذلك النجوم العملاقة نفسها، ونظراً لعدم إمكانية رؤيتها فقد سميت بالثقوب السوداء (Black Holes).
يحيط بالثقب الأسود قرص ساخن من مادة ذات درجة حرارة فائقة تبلغ ملايين الدرجات المئوية، و بمجرد اقتراب أي جسم مادي من أعتاب هذا القرص فإنه لن يستطيع العودة إلى الوراء أبدا، إنه سيدخل في منطقة خارج الزمان و المكان، إنه سيلج عالما آخر لا تحكمه قوانين الطبيعة المعروفة لذلك يسمى هذا القرص بأفق الحدث (Event-Horizon)، فعنده تتوقف الحوادث الكونية التي تحكمها قوانين الطبيعة المعروفة.
 إن ارتفاع درجة الحرارة الهائل للمادة و الأجرام السماوية المنجرفة إلى أفق الحدث و من ثم إلى الثقب الأسود يؤدي إلى صدور موجات قوية من الأشعة السينية و كأنها نداءات استغاثة تطلقها هذه الأجسام السماوية الضخمة و هي تنجرف مغادرة عالمنا المادي إلى المجهول.

لقد استُدل على الثقوب السوداء بادئ الأمر من رصد هذه الأشعة القادمة من السماء كما رأينا، لكن و مع تطور وسائل الرصد الفلكي تمكن العلماء من مشاهدة ما يحدث حول الثقب الأسود بتأثير جاذبيته الخارقة التي تحرف حتى النجوم العملاقة عن مسارها أو تبتلعها إذا اقتربت كثيرا من أفق الحدث، هذه الأحداث هائلة العنف تؤدي إلى ظهور سيالة من المادة تتعامد مع أفق الحدث من أعلاه و أسفله و تمتد مئات السنين الضوئية*** من الجهتين في الفضاء الكوني كما هو مبين في الشكل التالي:

رسم تخيلي للثقب الأسود  Cygnus x-1و هو يبتلع المادة من نجم قريب، يعتبر هذا الثقب أقوى مصدر للأشعة السينية المرصودة من الأرض و يقدر أن كتلته تبلغ 14.8ضعفا من كتلة الشمس بالرغم من أن قطره حتى أطراف أفق الحدث لا يتجاوز 44 كيلو مترا: http://en.wikipedia.org/wiki/Cygnus_X-1

---------------------------------------------------------------------------

*. المجرة و جمعها مجرات: عبارة عن تجمع هائل لمليارات النجوم و الكواكب و المذنبات و الغبار الكوني، تسمى أحيانا بالجزر الكونية، لأن الكون بمجمله يتألف من مليارات من مثل هذه المجرات. شمسنا مثلا و هي إحدى النجوم متوسطة الحجم تقع على أطراف المجرة المسماة (درب التبانة).

**. فولَّر و ويلر: العلية وجسور الزمكان: عاديات الطبيعة, المجلد (1278), 15 تشرين الأول 1962
R.W. Fuller and J.A Wheeler: CAUSALITY & MULTIPLY- CONNECTED SPACE-TIME; Physical Review, VOL.1278, OCT. 15, 1962

***. السنة الضوئية: هي المسافة التي يقطعها الضوء خلال فترة مقدارها سنة أرضية، علما بأن الضوء يقطع مسافة 300 ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، فيكون ما يقطعه في السنة الأرضية الواحدة= 9.461 تريليون كيلومتر أو 5.878 تريليون ميل أو 63241.077 وحدة فلكية، و الوحدة الفلكية الواحدة تساوي متوسط المسافة بين الشمس و الأرض.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم