تكاثر الآلات الذكية

يرتبط التطور الهائل الذي يحققه الإنسان المعاصر يوما  بعد يوم بتطور تقنيات معالجة المعلومات، هذه التقنيات التي بلغت اليوم حدا يفوق الخيال، و أدت إلى تسارع في تطور العلوم التطبيقية: في الطب و الهندسة و الفضاء و غير ذلك من مجالات هامة أخرى. مع ذلك فما زالت المعلوماتية قاصرة عن تلبية طموحات المستقبل، فمثلا ما زال الحاسوب قاصراً عن القيام بردود الأفعال الإنسانية من محبة و كراهية و تذوق للفنون الجميلة و غيرها من إحساسات و تطلعات لا يرقى إليها سوى الإنسان.
من أنواع الحواسب المتطورة اليوم، الجهاز المسمى (آرمز- ARMMS)، و قد صمم لتشغيل ومراقبة ملايين الأجزاء المتحركة في سفن الفضاء تلقائياً، لقد صنع هذا الحاسوب في الولايات المتحدة في السبعينات من القرن الماضي ليدير الرحلة إلى الكوكبين العملاقين (المشتري وزحل) بحيث يعمل خمس سنوات كاملة دون مساعدة إنسانية، يمكن تشبيه عمل هذا الحاسب بإدارة معمل ضخم بدون مساعدة إنسانية، فعليه أن يقوم بالإنتاج، والتسويق، واتخاذ القرارات بتسعير المنتجات أو الدعاية والإعلان لمدة خمس سنوات على الأقل بطريقة آلية بحتة.
بالرغم من ذلك فإن الجهاز (آرمز) يعتبر أقل تطوراً من الحاسوب (ستار- Star) الذي صمم في إطار مشروع زيارة الكواكب التي تقع خارج نطاق المجموعة الشمسية و ليقوم بأعمال آرمز نفسها مدة (11) عاماً دون مساعدة إنسانية.

لكن أكثر الحواسب تطورا اليوم، هو جيل من الحواسب فائقة السرعة (Super Computers)، مثل الحاسب الذي صمم خصيصا ليرسم الكون وفق المعطيات التي تجمعت لدى علماء فيزياء الفضاء، و هو يزن مئات الأطنان ويحتاج مساحة كبيرة جداً وتكاليف باهظة، وينجز في ثانية واحدة ما تحتاج الحاسبات الأخرى 10 ملايين سنة لإنجازه!

الكمبيوتر الخارق الذي استعمل لرسم شكل الكون

لاشك أن بمقدور الإنسان تصميم حواسب أكثر ذكاء في المستقبل، هذا ما نلاحظه حتى على مستوى الآلات المنزلية المبرمجة التي تتطور باستمرار، لقد أصبح بمقدور أفران المطبخ تنظيم درجة حرارتها تلقائياً، كما أصبحت أجهزة التلفاز تقلع وتتوقف ذاتياً حسب رغبة المشغل، وأصبح من الممكن الاستغناء عن عمال مقاسم الهاتف باستخدام المقاسم الآلية، و التحكم بجميع الأعمال المنزلية من تكييف و توفير في الطاقة و حراسة و إنذار عن بعد، وهكذا فقد ارتقت صناعة الحاسوب من علم تجريبي في عام (1945) لتصبح ثالث أكبر صناعة في العالم بعد صناعة النفط، والسيارات في الثمانينات من القرن الماضي... و من أهم صناعات العالم في الوقت الحاضر.
لم يقنع الإنسان بالعيش في عالم تديره الأزرار الكهربائية، فأراد أن تكون له آلة تدير هذه الأزرار، وقام بتصميم أجهزة السيطرة والتحكم التي يستطيع من خلالها إدارة أكبر وأعقد المنشآت ببذل أدنى جهد ممكن.
لقد رفلت المدنية المعاصرة برفاهية الكترونية لم يكن الإنسان يحلم بها من قبل، لكنه مازال يطمح إلى المزيد، فلماذا يكلف نفسه العناء في صنع أجهزة تفتح له الأبواب، أو تنظم درجة حرارة الأفران؟ لماذا لا يصنع آلة تنتج له مثل هذه الآلات؟ وبكلمات أخرى لماذا لا يخترع آلة تلد آلة أخرى غيرها؟
تبدو الفكرة مروعة للوهلة الأولى! فماذا لو أن هذه الآلات التي تتكاثر (بالتناسل) فاقت الإنسان تطوراً وذكاء بتقدم أجيالها، وماذا لو أُفلتت زمام الأمور من يد الإنسان ولم يعد قادراً أن يسيطر عليها؟ وماذا لو انقلبت على الإنسان في إحدى مراحل تطورها فقضت عليه، وتخلصت من سيطرته...؟
لاشك أن طريقة عمل هذه الآلات يجب أن تصمم بحيث لا تؤذي الإنسان، لكن هذا الشرط بحد ذاته، يمكن أن يؤدي بالعلاقة بين الإنسان والحاسوب إلى تناقض من نوع آخر فيما لو أراد الإنسان نفسه أذية أخيه الإنسان!!!
في الواقع يمكن تجاوز مثل هذه المشاكل المنطقية بتحسين تصميم الآلي ليوقف أي مجموعة من الأوامر المتناقضة التي تشكل خطراً عليه أو على المتعاملين معه، وليطلق إنذاراً بأنه قد وقع في تضارب منطقي يحتاج للعلاج.
لقد عولجت مسألة الآلات الالكترونية ذاتية التكاثر منذ الأربعينات من قبل عالم الرياضيات اللامع (جون فون نيومان) الذي عمل في معهد الدراسات المتقدمة في (برينستون – الولايات المتحدة) منذ عام (1933)، وحتى وفاته عام (1957)، فقام بإنشاء حاسوب للتحليل الرياضي والتكامل الرقمي كان أكثر الحواسب تقدماً آنذاك، أجريت عليه الحسابات الخاصة بصنع القنبلة الهيدروجينية، فأُنتجت بأسرع مما كان متوقعا، وقد أوجد نظرية الألعاب الخلاقة (Creative Games Theory)، وهي ألعاب تكاملية تجمع بين علم النفس والرياضيات، طُوِّرت عنها فيما بعد ألعاب الحرب (War Games)، أو ألعاب الإستراتيجية العسكرية، كما طورت عنها التقنيات الدبلوماسية، المعروفة باسم التصعيد (Escalation)، وقد اقترح نظاماً رياضياً لمعالجة المسائل الاقتصادية على مستوى الحكومات والدول، كما اقترح نظاماً آخر يقوم على الإحصاء الاحتمالي للتنبؤ بحركة المجتمعات الإنسانية التي تؤدي إلى الأحداث العالمية الكبرى كالحروب، والثورات، والانقلابات الاجتماعية. لقد استطاع (نيومان) أن يدهش مستمعيه في المحاضرة التي ألقاها عام (1948) تحت عنوان: "النظرية المنطقية العامة للأتمتة": (The General and Logical Theory of Automation) والتي لخصت تجاربه وأفكاره في هذا المجال. إن الآلي، أو الآلة الذكية (Automation) وفق مفهوم نيومان هي آلة (مولودة) بكاملها من قبل آلة أخرى، والآليون جنس جديد وذكي، ذاتي التكاثر، يعمل وفق المفاهيم المنطقية والأوامر التي يتلقاها من الإنسان، لكنه لا يستطيع تجاوز الإنسان ذكاء وقدرة على التحليل.
إذا أجرينا مقارنة سريعة بين قدرات الآلي، وقدرات الكائنات الحية، نجد أن دماغ الإنسان يحوي عشرة مليارات خلية عصبية (NEURON)، مهمة هذه الخلايا تلقي المعلومات، وإصدار الأوامر إلى مليون مليار خلية حية في جسم الإنسان، وإن أفعال الكائنات الحية مصممة بإحكام ودقة بحيث لا تسبب ضرراً للوسط المحيط بها، إذ نجد نوعاً من الألفة الاجتماعية بين أفراد النوع الواحد من فصائل الحيوان، وحتى التنازع على البقاء الذي يقول به (داروين)، فإنه يقود الأنواع إلى الرقي والتطور. تقدم الكائنات الحية في تعاملها مع البيئة خدمات كبيرة، منها عملية التمثيل الضوئي التي تفكك غاز ثاني أكسيد الكربون الخانق إلى الأوكسجين المفيد لجميع أنواع الحياة. والكربون الذي يتحول بالنتيجة إلى مواد غذائية للحيوان والنبات، نجد أيضاً أنواعاً من البكتيريا التي تفتت الجثث وتحولها إلى مواد عضوية مفيدة للتربة.
نستطيع الاسترسال في إيراد مالا حصر له من الأمثلة حول التناغم الرائع والموجه بين البيئة والأنواع الحية على الأرض، الأمر الذي تعجز عن تحقيقه أكثر برامج الحاسوب تطوراً.
أيضاً فإن تعرض الإنسان للمرض لا يشل ملكة التفكير عنده، بعكس الآلي، الذي يمكن أن يتوقف عن العمل لأقل عطل يصيب خلاياه الإلكترونية، هذا عدا عن ملكة التخيل والإبداع، ومزيج العواطف المعقدة التي يمتاز بها الإنسان فقط عن غيره، والتي لا يمكن لأي آلي أن يتمتع بها.
إن تصميم آلي يقوم بالأعمال الميكانيكية البحتة التي يقوم بها الإنسان، فقط، دون ردود الأفعال العاطفية والإنسانية الأخرى، يعني أن يكون هذا الآلي مجهزاً بعدد خيالي من الدارات الالكترونية المتكاملة، وإذا افترضنا أن بناء هذا الآلي ممكن، فإن حجمه سيكون بحجم أكبر القلاع المعروفة.
تتعلق رؤى (نيومان) بإيجاد جنس من الآلات الذكية، ذاتية التكاثر، أي آلات تنتج أولاداً وأحفاداً مثلها، لا بل أكثر تطوراً منها، لذلك نجد من المفيد استعراض الطريقة التي تنتقل بها الصفات الوراثية عبر الكائنات الحية و نقابلها بالطريقة المقترحة من قبل (نيومان) لتكاثر الآلات الذكية.
اكتشف عالما الحياة (فرنسيس كريك) و(جيمس واطسون) عام (1953)، أن الخلية الحية تضم في جوفها مادة: (الحمض الريبي النووي ثنائي الأوكسجين):
Dioxy Ribonucleic Acid  التي ترمّز اختصاراً بـ (DNA)، هذه المادة تحمل الصفات الوراثية اللازمة لتكاثر الخلية الحية، وتوجه عملية بناء البروتين فيها بإصدارها الأوامر إلى مادة أخرى تدخل في تركيبها تسمى ( الحمض الريبي النووي) (RIBONUCLEIC ACID)، اختصاراً (RNA).
يعتبر (RNA) المساعد الأصغر لـ (DNA)، فبينما يقوم (RNA) بعمله المتكرر في بناء البروتينات مستعملاً في ذلك مادة خلوية تدعى (ريبوزوم Ribosome)، ينشغل (DNA) بعمل خلاق ويبدع في برمجة الجينات و المورثات التي تحمل الرسالة الحياتية من السلف إلى الخلف فتحدد للطفل الإنساني مثلاً الصفات التي سيكون عليها من لون شعره  وطوله، وطبيعة مزاجه، وغير ذلك من صفات وراثية، تدوَّن هذه المعلومات على شريط مركب في بنية (DNA) يدعى (بوليميريس Polymerase)، وهكذا نجد الخلية الحية وقد حملت داخلها رسالة الحياة المكتوبة بدقة معجزة، فلكل خلية برنامج مطبوع ومحفوظ لديها ليؤدي عمله في إعادة تشكيل خلية مماثلة عند اللزوم، وقد علمنا أن جسم الإنسان يحوي حوالي عشرة مليون مليار خلية ، الأمر الذي يبين جانباً واحداً فقط من الإعجاز الذي يحكم تكوينه وتكاثره.
لقد تعرف (نيومان) على طريقة عمل كل من (DNA) و (RNA) قبل أن يثبت ذلك العالمان (كريك و واطسون)، ثم امتد به العمر ليشهد صحة نبوءته، فقد اقترح أن يكون للآلي ذاتي التكاثر نظاماً مبرمجاً مماثلاً من حيث المبدأ لنظام الخلية الحية، وكما في أي معمل فإن عملية الإنتاج أو التكاثر توزع على ثلاث دوائر، يمكن تبسيط عملها بما يلي:
الدائرة (أ): تقوم بتأمين المواد الأولية اللازمة للإنتاج أو التكاثر وفق معلومات تحصل عليها مسبقاً.
الدائرة (ب): وهي دائرة اتصال، تقوم بنقل المعلومات من المبرمج إلى المنفذ،
الدائرة (ج): وهي الرأس المفكر الذي يضع البرامج، ويدير المصنع، ويتخذ القرارات اللازمة بهذا الخصوص، كتحديد نوع القطع التي يجب إنتاجها، وجهة التسويق...
باختصار فإن ما توصل إليه (كريك وواطسون) بما يخص الخلية الحية، يعكس تصورات (نيومان) عن تكاثر الآلي، فالدائرة (أ) هي (الريبوزومز)، والدائرة (ب) هي (البوليميريس)، أما الدائرة (ج) فهي (DNA)، فما هي الطريقة التي يمكن للآلي أن يتكاثر بها؟ هل يكفي أن نوجه له أمراً بالتكاثر ليبدأ بذلك؟ إن إجابة الآلي على أمر كهذا ستكون كالتالي:
-          لا أستطيع أن أصنع مثلي، لأني لا أعرف من أنا أو ما أنا!
إن معالجة الموضوع بهذه الطريقة تبدو كمن يعطي زوجته كافة مكونات الجسم الحي من مواد عضوية ومعدنية في زجاجات وأنابيب، ثم يطلب منها أن تنتج طفلاً!،  بالطبع إنها  لن تستطيع ذلك حتى ولو كانت من ألمع عالمات (البيولوجيا)، فالإنسان يتكاثر بالمورثات وليس في المخابر، وقد بُرمجت طريقة ولادته وموته بطريقة لا حيلة له فيه، أما الآلي فلا يعدو كونه جهازاً مبرمجاً بدقة من قبل الإنسان لذلك يجب أن يتضمن برنامجه الأمور التالية في جملة ما يتضمنه حتى يستطيع التكاثر:
1-      أن يُعطى وصفاً كاملاً عن نفسه،
2-      أن يًعطى وصفاً كاملاً عن آلي آخر يعرف وصف نفسه مسبقاً،
3-      أن يُعطى أمراً بصنع آلي مماثل للموصوف في النقطة الثانية، وأن يقوم هذا بدوره بنقل الأمر إلى آلي ثالث فرابع وهكذا،. حتى يتكرر الإنتاج، ويبدأ التكاثر،
4-      أن يحتفظ الإنسان لنفسه بأمر في برنامج الآلي يتضمن إيقاف عمله وتكاثره في حال ظهور أي خطر من الآلي على الإنسان.
لقد أسهب كتّاب الخيال العلمي في وصف آليين يشبهون الإنسان في مظهرهم الخارجي، وفي وضع أسس العلاقة بين إنسان المستقبل وهؤلاء، والتي يجب أن تقوم على ما يلي:
1-      أن لا يقوم الآليون بعمل مباشر أو غير مباشر يؤدي إلى أذية الإنسان،
2-      أن يطيعوا الأوامر التي يتلقونها من الإنسان، على أن لا يتعارض هذا مع ما ورد في النقطة الأولى،
3-      أن يحموا أنفسهم من الخطر الخارجي، على أن لا يتعارض هذا مع ما ورد في النقطتين الأولى والثانية.
طبعاً، ليس من الضروري أن يشبه آليو المستقبل الإنسان في الشكل، ولا أن يقوموا بكافة الأعمال التي يقوم بها (على فرض أن ذلك ممكن)، و إلا كثرت البطالة ، بل سيستفاد من الآليين في القيام بأعمال تحمل من المخاطر ما لا داعي للإنسان أن يتعرض له، فعندما يبدأ الارتحال إلى الكواكب البعيدة مثلا، سيجد الآليون مشاريع كبرى في انتظارهم، منها العمل في بيئة لا تتوفر فيها المياه أو المواد الغذائية اللازمة لحياة الإنسان، أو في أجواء تتميز بارتفاع درجات الحرارة والضغط كما هو الحال على الزهرة مثلا...
يعتقد الأستاذ (فريمان، ج. دايسون)، المحاضر في معهد (برينستون) للدراسات المتقدمة، أن المستقبل سيشهد انتقال محطات الطاقة النووية على الأرض إلى الفيافي المقفرة تحاشياً للتلوث والأخطار التي يمكن لهذه المحطات أن تهدد بها البيئة، عندها سيجد الآليون فرصة نموذجية للعمل في هذه الصحاري والقفار، حيث يجدون في صخورها المواد الأولية اللازمة لتكاثرهم كمادة السيلكون والألمنيوم وغيرها من المعادن، فيستفيدون منها ومن الطاقة الشمسية في زيادة عددهم للمشاركة في إقامة محطات جديدة، وإنتاج مستلزمات نقل التيار الكهربائي كالأسلاك المعدنية والقواطع وغيرها.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم