المسلمون والحداثة: 1- مصر والحداثة

 

واجهت المسلمين مشاكل عميقة معقدة عندما حاولوا أن ينفضوا عن أنفسهم حصاد سنين من التخلف العلمي والتقني وأن يجدوا لأنفسهم موقعا تحت الشمس يليق بتجذّر حضارتهم الضاربة عمقا في التاريخ، فقد وجدوا أنفسهم أمام قوى أجنبية استعمارية غازية، أرغمتهم أن يرزحوا تحت نير الاستعباد والتبعية السياسية.

نظرا للتجربة الغنية التي خاضتها كل من مصر وإيران في هذا السبيل والتي يمكن اعتبارها نموذجا وأمثولة لما مرت به بقية بلدان العالم الإسلامي، فإننا سنقتصر في البحث على هاتين التجربتين بالنقد والتحليل.

بدأ أول احتكاك بين طلائع الغرب والمسلمين عندما غزا نابليون بونابرت مصر في عام 1798، محاولا أن يقيم فيها قاعدة عسكرية في السويس ليقطع على انكلترا طرقها البحرية إلى مستعمراتها في الهند، ولكي يهاجم الدولة العثمانية من بلاد الشام وبذلك أصبحت مصر وبلاد الشام لعبة قوة بيد الدول الكبرى للسيطرة على العالم. لكن نابليون قدم نفسه للمصريين على أنه حامل لواء التقدم والتنوير، فبعد أن انتصر على فرسان المماليك في معركة الأهرام في 21 يوليو (تموز) 1798 أصدر إعلانا باللغة العربية يتضمن الوعد بتحرير مصر من الحكم الأجنبي للمماليك وأن يحترم الإسلام ونبيه والقرآن العظيم.

لكن المصريين لم يغفلوا عن أن هذا التحرير المزعوم كان له جانبه العدواني على تراث مصر ومواردها، وأن تفوق الآلة العسكرية للغرب، واعتماده أساليب العلم الحديث ستُسخّر لخدمة المصالح الأوروبية في الشرق وإخضاع شعوبه للاستعمار وكانوا محقّين في ذلك كما سيتبين بوضوح في السنين القادمة.

حاول نابليون استقطاب علماء الدين والشريعة ليقفوا في صفه ضد الأتراك والمماليك، فعينهم في أرفع مناصب الحكومة، وأعطاهم سلطات لم يحلموا بها من قبل، لكن العلماء لم يطمئنوا إلى أن يكون الحاكم غريبا عن الإسلام، فرفض بعضهم الوظائف التي عرضت عليهم، وفضلوا الاقتصار على إدارة شؤون الدين والشريعة، ونهض بعضهم الآخر بدور الوسيط بين الحكومة والشعب، وقامت ثورات ضد الفرنسيين المحتلين كما حدث في عامي 1798 و1800، أخمدها الفرنسيون بالقوة.

لكن العلوم والمخترعات الحديثة التي أتى بها الفرنسيون أثارت دهشة وحيرة المصريين، فلم يكن بمقدورهم أن يتخيلوا مثلا جسما بحجم المنطاد يحلق في الجو من تلقاء نفسه، ولو أنهم لم يروا ذلك بأم أعينهم لقالوا إن الحديث عن أجسام تطفو في الهواء من تلقاء ذاتها هو أكاذيب واساطير، أو أنها من فعل الجن والعفاريت، وكان البون في لقاء الحضارات هذا شاسعا بين حضارة الشرق التي غُيّبت عن التاريخ بضع مئات من السنين وبين العقل الأوروبي الذي يستند إلى أكثر من قرنين من دراسة العلوم الطبيعية التجريبية. وقد كتب الجبرتي[1]  بعد رؤيته المنطاد محلقا في جو السماء في أحداث يوم الأربعاء 5 ديسمبر (كانون الأول) 1798 يقول: " ... ولهم فيه أمور واحوال وتراكيب غريبة ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا".

وتمكن البريطانيون عام 1801 من إخراج الفرنسيين من مصر و كانوا ملتزمين بموجب معاهدات مع الدولة العثمانية على إعادة أراضيها إليها، لكن المماليك رفضوا الوالي التركي الجديد، وقام النزاع بين المماليك والانكشارية والحامية الألبانية التي أرسلها العثمانيون لفرض سلطتهم حوالي العامين برز خلالها ضابط ألباني شاب يدعى محمد علي (1849-1769) فأمسك بزمام السلطة، و كان العلماء المسلمون قد أرهقتهم الفوضى و خاب ظنهم في المماليك لعدم كفاءتهم، فأعلنوا مؤازرتهم لمحمد علي، وقاموا بزعامة عالم نابه يدعى عمر مكرم، بثورة شعبية ضد الأتراك، وارسلوا وفداً إلى استانبول للمطالبة بتعيين محمد علي حاكما على مصر، و عندما وافق السلطان على تعيينه هلل أهل القاهرة و كبروا، و كتب أحد المراقبين الفرنسيين يقول إن حماس الجماهير ذكّره بالثورة الفرنسية. وكان محمد علي قد ضمن تأييد العلماء بأن وعدهم باستشارتهم في شؤون إدارة الدولة قبل إجراء أي تغيير في مصر، لكن تطلعات محمد علي وأحلامه لم تكن لتخطر لهم على بال، فقد أعجب بالجيش الفرنسي وعقد العزم على تأسيس جيش حديث مثله وإقامة دولة حديثة مستقلة عن إستانبول في مصر.

لم يكن محمد علي مهتما بشؤون الفكر ولم يتعلم القراءة إلا في الأربعين من عمره، ولم يكن يسعى إلا وراء تعلم فنون الحكم والعلوم العسكرية، فلم يكن يريد سوى اكتساب التكنولوجيا والقوة العسكرية اللتين أتت بهما الحداثة، مع استعداده لتجاهل تأثير هذه التغييرات في الحياة الثقافية والروحية للبلد. مع ذلك فقد كان رجلا فذا، فعندما وافته المنية كان قد نجح في الخروج بمصر من حالة التخلف والعزلة.

لقد أراد محمد علي أن يتجاوز كل التقدم الفكري والعلمي والتقني الذي وصل إليه الغرب في بداية القرن الثامن عشر بعد مروره بسلسلة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أدت إلى تحرر العقل الغربي من عقال الأسطورة والخرافة والتدليس، وتمكنه من الإبداع وانتاج الكثير من المخترعات التي كانت بمثابة الحلم في عصور الظلام في أوروبا وان يقفز بمصر قفزة واحدة إلى الأمام، مستفيدا من الخبرات والتجارب الجاهزة للغرب.

بدأ محمد علي بناء إمبراطوريته بحملة تطهير عرقي شنها على المماليك واجتث جذورهم، تلتها حملة اقتصادية استطاع من خلالها الاستيلاء بالقوة على أملاك الدولة ومواردها، فقد أدرك بنوع من الحصافة والفطرة السليمة أن قوة الغرب ترتكز إلى اقتصاد قوي وعلم نافع، فاستطاع خلال ما لا يزيد عن عشر سنوات أن يصبح المالك الأوحد لمختلف أوجه النشاط الاقتصادي في الدولة وتحمل المصريون ذلك بعد أن عوضهم عنه بسيادة القانون والنظام بعد سنوات من الفوضى وسوء الإدارة، وبتسخير جميع الإمكانات والموارد في خدمة الدولة، بعيدا عن المصالح الشخصية الضيقة. كان أعظم إنتاج لمحمد علي هو زراعة القطن الذي ما زالت مصر تفتخر بجودته إلى اليوم، وقد أصبح القطن من منتجات التصدير عالية القيمة التي مكنت مصر من استيراد الآلات الحديثة والأسلحة من الغرب، ووفرت لها بعض الاستقلال السياسي الذي لا يمكن الوصول إليه بغير الاستقلال الاقتصادي، أيضا فقد أنشأ مصنعا لتكرير السكر، ومصانع لحلج الأقطان واخرى لصناعة الزجاج ومصابغ ومطابع وافتتح مناجم للنحاس ... لكن بعض هذه المشاريع لم يكتب لها النجاح لغياب القوة العاملة المتعلمة والماهرة الخبيرة، فمعظم الموارد البشرية لمصر كانت آنذاك من الفلاحين البسطاء الذين لا يجيدون القراءة والكتابة ناهيك عن التعليم التقني والمهارات الفنية المتخصصة، الأمر الذي يتطلب إصلاحه حصول تغيرات اجتماعية عميقة، ولم يكن الوقت متاحا لمحمد علي كي يقوم بهذه التغيرات بل كان سبيله الأوحد محاكاة وتقليد الغرب فألزم نفسه ببرنامج من التقليد في المجالات الإدارية والتكنولوجية والتعليمية، وكان ذلك يمثل نقيض روح الحداثة التي تقوم على الإبداع والابتكار، فأقام نظاما إداريا على غرار الأنظمة الغربية و كان معظم موظفيه من الأتراك والأوروبيين واهل الشام، الذين شكلوا طبقة جديدة في المجتمع المصري، وأرسل المتميزين من الشباب في بعثات دراسية إلى فرنسا وانكلترا، وانشأ كلية عسكرية التحق بها 1200 طالباً، إضافة إلى مدرستين للمدفعية، فكان العسكريون هم الأكثر صلة بالغرب في مجتمع يسير في طريق الحداثة، وسيكون لذلك أثره في المستقبل عندما سيصبح العسكريون في حالات كثيرة هم الزعماء الحقيقيون للبلاد، بعكس ما حصل في الغرب.

وقع محمد علي بين مطرقة الإنكليز وسنديان الأتراك، فلم يقبل الانكليز بالقوة الجديدة الناشئة في مصر والتي قد تهدد خططهم المستقبلية في السيطرة على قلب العالم وضمان سلامة طريق سفنهم وقوافلهم إلى مستعمراتهم في جنوب شرق آسيا، ولم يقبل الأتراك بقيام دولة محمد علي شبه المستقلة لولم يكونوا بحاجة إلى آلته الحربية الحديثة التي أثبتت تفوقها وفتكها يوما بعد يوم، لكن ما زاد الأمور تعقيدا هو قيام إبراهيم باشا، ابن محمد علي بغزو فلسطين وسوريا الولايتين العثمانيتين عام 1832 وضمهما إلى إمبراطورية أبيه مما أجج الضغائن ضده لدى الأتراك والإنكليز معاً.

كل هذه الإنجازات كانت على حساب الرعايا من المصريين الذين اضطر لانتزاعهم من الحقول والأرياف لتجنيدهم في الجيش، فتراجعت الزراعة برحيل الرجال عن الأرض، ووقعت أسر الفلاحين في براثن الفقر.

كانت النظم الاجتماعية القديمة تتهاوى باستمرار دون أن تتغير أساليب الحياة أو العقائد المحافظة التي تنتمي لما قبل الحداثة عند غالبية المصريين بينما كانت تظهر فئة جديدة من العسكريين والموظفين الإداريين الذين كانوا على احتكاك بالغرب ويأخذون بأساليب الحداثة.

لقد تقبل العلماء فجر الحداثة على مضض نتيجة الوعود المغرية التي قدمها محمد علي لهم، لكن ذلك لم يدم طويلا، فقد ألغى الباشا في عام 1809 إعفاءهم من الضرائب، واستولى على موارد الأوقاف فحرمهم بذلك من أهم مصادر الدخل لديهم، و راح يعزل كل من يخالفه الرأي في سياساته، وادت مشاريع الحداثة التي خاضها إلى ضائقة مالية بلغت ذروتها عام 1815 عندما تهدم عدد كبير من كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، ولم تكن الرواتب تصرف للمدرسين، ولم يكن لدى إدارة الأوقاف ما تنفقه على الأئمة والمؤذنين، وتدهورت المباني المملوكية العظيمة كما تدهور الأزهر نفسه.

وقد قابل المسلمون الحداثة بصورة الثقافة الغازية وادعيائها بصفة المستعمرين المستغلين، و ظهرت مقولة أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، ناسين أن حداثة الغرب والتنوير قد استندتا إلى احتكاك الغرب بالشرق من خلال الحروب الصليبية ومنارات العلم في الأندلس التي نقلت إلى الغرب ما فاته من علوم وحكمة في عصور الظلام التي مر بها، بل إن القرآن نفسه قد غرس الفكر العقلاني وحض على التفكير وتدبر آيات الله في الآفاق والأنفس، كما أكد على العدل والإنصاف، وكل هذا يتمتع بالقداسة في الصيغة الأخلاقية الغربية الحديثة، لذلك نرى الكثيرين من كبار مفكري الإسلام وقد انجذبوا إلى الغرب في أواخر القرن التاسع عشر.

وفي مصر كانت أوروبا الحديثة تعتبر مصدر إلهام في سبعينات القرن التاسع عشر، وقد ظهر هذا جليا في كتابات رفاعة الطهطاوي، الذي كان يؤكد على ضرورة التعلم من الغرب، وفتح أبواب الاجتهاد وتحرير العقل مما حاق به من قمع بتأثير فتاوى عافها الزمن، وأن على الشريعة أن تتكيف مع العالم الجديد، وأن العلم ومناهج التعليم التي تحذو حذو مناهج التعليم في الغرب هي مفتاح التنوير والحداثة والتقدم.

في تلك الفترة قدمت مجموعة من المثقفين والكتاب من بلاد الشام إلى مصر واستقرت في القاهرة، وكان معظمهم من المسيحيين الذين تلقوا تعليمهم في الإرساليات الفرنسية والأمريكية، وكانوا من الصحفيين، فتمتعوا في مصر في ظل الخديوي إسماعيل[2] بحرية أكبر من الحرية التي كانوا يتمتعون بها في الأراضي العثمانية، وأنشؤوا صحفا تقدم الأفكار الحديثة بالغة الأهمية إلى القارئ العربي، وكانوا حريصين على إبراز دور العلم في رقي الأمم وتطورها. والحقيقة أن الطهطاوي والصحفيون من بلاد الشام نعموا بفترة تناغم قصيرة بين الشرق والغرب، خبت خلالها روح الكراهية الصليبية للإسلام في الغرب. لكن هذه الفترة شهدت أيضا ظهور جمال الدين الأفغاني (1897-1839) الذي لم ينبهر بالغرب انبهار الطهطاوي بالباريسيين وتنقل الأفغاني بين شبه الجزيرة العربية وتركيا و روسيا واوروبا، و كان على اقتناع بأن الغرب يوشك أن يسحق العالم الإسلامي، فعقد العزم على أن يعلم العالم الإسلامي توحيد صفوفه تحت راية الإسلام في مواجهة أخطار الامبريالية الغربية، ونجح في اجتذاب مجموعة من الأتباع الذين حرصوا على نشر أفكاره الداعية إلى الوحدة الإسلامية، واقامة مجتمع الحداثة المبني على الأصالة التراثية والفكرية، بدلا من التقليد الأعمى للغرب الذي لن يأتي إلا بصورة مشوهة من الحداثة. و في سبيل ذلك لا بد للخطاب الديني الإسلامي أن يتغير ليتعامل بأسلوب خلّاق مع متطلبات العصر، لقد أصاب الأفغاني في هذا كله، لكن ما فاته هو أن الإصلاح الديني لا يستطيع وحده تحديث بلد ما ودرء خطر امتداد النفوذ الغربي، بل لا بد من نهضة اقتصادية كاملة تأخذ بأسباب التصنيع وتتجاوز الحدود التي فرضتها الحضارة الزراعية، بل لا بد من محاربة الفساد والاستبداد ونشر مبادئ الحرية والتسامح والديمقراطية، وقد أثبتت مجريات التاريخ دوما أن الضعف الاقتصادي يؤدي إلى الضعف السياسي والاعتماد على الدول القوية، وان هذه التبعية المهينة تزيد من صعوبة غرس الروح الحديثة حقا وتنميتها.

لقد حاول الأفغاني أن يجعل منطق الروح الذي يستند إليه الدين يبدو في صورة منطق العقل، فكانت النتيجة أن قدم خطابا دينيا ناقصا وخطابا علميا غير صحيح في الوقت نفسه. إلا أن مخاوف الأفغاني بدأت تتحقق مع نهاية القرن التاسع عشر مدفوعة بحاجة الاقتصاد الأوروبي إلى التوسع والبحث عن أسواق لفائض الإنتاج خارج أرضه وبين الشعوب الأخرى، فبدأ استعمار الشرق الأوسط باحتلال فرنسا للجزائر عام 1830، تلتها بريطانيا بعد تسع سنوات باحتلال عدن،  ثم تونس 1881، والسودان 1889، وليبيا والمغرب 1912، ثم توجت بريطانيا و فرنسا جهودهما الاستعمارية في اتفاق "سايكس-بيكو" بتقسيم أراضي الدولة العثمانية التي أسموها ب (الرجل المريض)، فدخلت هذه البلدان، التي كانت جزءا من إمبراطورية شغلت معظم رقعة العالم، في هامش التاريخ، وأصبح مصيرها السياسي والجغرافي بيد حفنة من الدول الاستعمارية التي لم يهمها سوى استنفاذ موارد الدول المُستعمَرة إلى أبعد الحدود وتطويعها ضمن إطار الأسس الأوروبية بإعادة تنظيم الشرطة والجيش، وتكييف الجوانب المالية والتجارية والإنتاجية للاقتصاد بما يواكب خطط المستعمر في الهيمنة وبسط النفوذ على كافة المرافق الحيوية للبلاد، و كمكافأة ترضية لم يكن هناك مانع من تعريف أهل البلاد ببعض الأفكار الحديثة شريطة أن لا تؤدي إلى توعيتهم بالمخاطر المحدقة بهم، فتحول انبهار البعض بحضارة الغرب وتقدمه التكنولوجي إلى مرارة وضيق واستياء.

وفي مصر أدت التكاليف الباهظة لإصلاحات الخديوي إسماعيل ومشروعاته التحديثية إلى إفلاس البلد مما جعلها تعتمد اعتمادا كاملا على القروض الأوروبية، وفي عام 1875 أُرغم الخديوي على بيع أسهم القناة إلى البريطانيين الذين أصبحوا يتحكمون بالاقتصاد المصري، وعندما حاول المصريون استرداد عافيتهم من خلال ثورة أحمد بك عرابي عام 1881 ومن خلال الانتفاضات الشعبية قررت الحكومة البريطانية التدخل لحماية مصالح حملة الأسهم، وهزمت جيش عرابي في معركة التل الكبير عام 1882 التي كانت بداية الاحتلال العسكري البريطاني لمصر. وعلى الرغم من إعادة الخديوي توفيق ابن إسماعيل رسميا إلى السلطة، فإن الحاكم الحقيقي لمصر كان القنصل البريطاني اللورد كرومر، الذي كان نموذجا للمستعمر الكريه، فكان يرى المصريين شعبا متخلفا فاسدا، وأن مصر تحتاج أن تستعمر لتأخذ بأسباب الحداثة والتطور، وكان يقارن بينها وبين انكلترا في عصره فيجد الهوة الحضارية الكبيرة بين البلدين، وقد نسي أن البلدان الأوروبية كانت متخلفة في يوم ما. 

على الرغم من تحقيق انجازات اقتصادية كبيرة في عهد كرومر بتحسين أساليب الري والغاء نظام السخرة الذي يرغم الرجال على العمل بدون أجر عادل، و زيادة إنتاج القطن المصري الشهير عالميا، وتحسين القضاء ... فقد ظهرت تصدعات جديدة داخل المجتمع المصري، فحرم علماء الدين من عملهم باعتبارهم رجال التعليم والأوصياء على المعرفة، وحل محلهم من تلقوا التعليم الغربي، واستعيض عن المحاكم الشرعية بالمحاكم المدنية، كما تضرر أصحاب الحرف و صغار التجار من هذه التحولات، وبرزت طبقة جديدة من موظفي الحكومة والمثقفين المتشبهين بالغرب. إلا أن أهم هذه التحولات ضررا كان ميل بعض المصريين لتقبل آراء المستعمرين السلبية عنهم، فكان محمد عبده (1905-1849) تلميذ الأفغاني مثلا يصف قدوم المستعمر بأنه "عصر أقام رابطة بيننا وبين الأمم المتحضرة، واطلعنا على أحوالهم الممتازة ... وحالتنا المتواضعة، فكشف عن غناهم وفقرنا، وعن كبريائهم وانحطاطنا، وقوتهم وضعفنا، وانتصاراتهم وعيوبنا" كما يقول. وهكذا سمح المسلمون لمستعمريهم لأول مرة أن يرسموا أطر تفكيرهم. لكن العلاقات مع البريطانيين ما لبثت أن تدهورت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، فكان المسؤولون البريطانيون الجدد أقل كفاءة من أسلافهم وكونوا لأنفسهم مجتمعا استعماريا مغلقا وتمتعوا بامتيازات تعفيهم من تطبيق قوانين البلد عليهم، وظهر الزعيم الوطني والخطيب المفوه مصطفى كامل (1908-1874) الذي كان يدعو إلى الجلاء الفوري لبريطانيا عن مصر، لكن محمد عبده كان يعتبره متحاذقا يستغل بساطة الجماهير و جهلهم ليسوّق لنفسه وليتقلد المناصب الرفيعة من وراء حماسة الجماهير ودعمها له، ودعا محمد عبده إلى التأني في إدخال منجزات الحداثة من تقنية و إدارية و فكرية وتسخير الدين في المواءمة بين منجزات الحضارة وما جاء به الدين أصلا، لتكون الحداثة قريبة من الجماهير عبر لغة الدين المتغلغلة في أعماقهم؛ فالديمقراطية مثلا، كما يقول، أسس لها الإسلام أصلا من خلال دعوته إلى مبدأ الشورى، والإصلاحات الاقتصادية تبناها الإسلام من خلال الدعوة إلى التكافل الاجتماعي، ومن ثم فإنه كان يعتزم إجراء مراجعة كبرى للشريعة حتى تصبح قادرة على التصدي للظروف المستجدة، وقد نُفِّذ هذا  المشروع بعد وفاته في العشرينيات من القرن العشرين. كذلك فقد دعا محمد عبده إلى توحيد النظم التعليمية في مصر بعد أن وقع التعليم فريسة ثلاثة أنظمة لا تمت لبعضها بصلة، ففي المدارس الدينية والكتاتيب الخاضعة للمحافظين من رجال الدين كان الطلاب لا يشجَّعون على التفكير المستقل، وفي مدارس الإرساليات المسيحية المؤيدة للاستعمار كان النشء المسلم يشعر بالاغتراب عن بلده ودينه، أما المدارس الحكومية فقد حرمت من ميزات هذا وذاك، وتجاهلت تعليم الدين تماما. وفي عام 1899 أصبح محمد عبده مفتي الديار المصرية، وعقد العزم على إصلاح التعليم الديني التقليدي وتدريس العلوم الطبيعية في الكتاتيب حتى يصبح الطلاب قادرين على المشاركة الكاملة في حياة المجتمع الحديث. أما الأزهر فكان في رأي محمد عبده من أسباب تخلف الحياة الاجتماعية في مصر، إذ أدار ظهره للحداثة وأصبح حصنا لتراث عالم بائد. لقد كان علماء الدين يقاومون الإصلاحات التي حاول محمد عبده تنفيذها وكان يرون فيها هجمة تنتقص من دور الدين في السياسة والقانون والتعليم والاقتصاد، مما أدى إلى استقالة محمد عبده من منصب المفتي عام 1905 وهو العام نفسه الذي توفي فيه.

تبين تجربة كل من محمد عبده والأفغاني العلاقة الحرجة والحساسة بين الحداثة والدين في زمن التحولات الكبرى التي تأتي بها الحداثة والتي تؤدي إلى زعزعة المواقف والأصول، تبدأ هذه المرحلة بالشعور بالاغتراب، بدلا من اللحمة التقليدية التي كانت تسود المجتمع، ويبدأ الاغتراب عن الثقافة الأصلية في التكافل والتراحم ويصبح المثقفون كالريشة في مهب الريح ينتمون إلى أصالة مشوشة؛ هذه ضريبة التطور والحداثة التي لابد من تأديتها قبل كل تغيير، وستؤدي لاحقاً إلى تهاوي المؤسسات الاجتماعية القديمة إيذانا بظهور مؤسسات جديدة قد تبدو غريبة عن المجتمع المحافظ في البداية وغير مفهومة، حتى يستطيع المجتمع الناشئ التعايش معها من جديد، وهذا في الواقع ما حصل في عصر النهضة في الغرب أيضاً.  

كان كل ذلك في الوقت الذي كان فيه المسلمون يحاولون استيعاب الأفكار الجديدة ضمن إطار إسلامي أو أن يتبنوا أيديولوجيا علمانية. أما الأصولية في العالم الإسلامي فلم تظهر حتى برهنت هذه الاستراتيجيات المبكرة على عدم كفايتها، وبدا للبعض أن العلمانية ما هي إلا محاولة للقضاء على الإسلام، وان ما أكد هذه الفكرة هو  قيام دولة تركيا العلمانية الجديدة حيث قاد مصطفى كمال أتاتورك (1938-1881) القوات التركية في حرب للاستقلال من عام 1919 إلى عام 1922 ونجح في إبعاد الأوروبيين عن تركيا واقامة دولة ذات سيادة تدار على أسس أوروبية حديثة، وبحلول عام 1947 كان لدى تركيا حكومة كفء ونظام رأسمالي، واصبحت أول دولة ديمقراطية علمانية متعددة الأحزاب في الشرق الأوسط. إلا أن هذا الإنجاز بدأ بعملية تطهير عرقي واسع النطاق لليونانيين والأرمن الذين يشكلون معظم البرجوازية في البلاد، وقد أتاح ذلك لأتاتورك إضفاء هوية قومية تركية على الدولة الناشئة وإنشاء طبقة تجار تركية خالصة تتعاون مع الحكومة لإقامة اقتصاد صناعي حديث.

لقد عمل أتاتورك على تغريب الإسلام وتقليصه ليصبح غير ذي أثر قانوني أو سياسي أو اقتصادي ورأى أن على الدين أن يخضع للدولة، فألغى المدارس الصوفية والكتاتيب وحظر ارتداء الزي الإسلامي من حجاب أو طربوش وفرض الزي الغربي بقوة القانون، ولم تفلح حركات المقاومة التي قامت ضده فقد أخمدها بحزم وسرعة. كان ذلك بعكس العلمانية الغربية التي تطورت تطورا إيجابيا أدى إلى مزيد من التسامح والاستحسان.

و في مصر طالب القوميون المصريون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بالاستقلال، وانطلقت مظاهرات حاشدة هوجم فيها الانكليز، ونسفت بعض خطوط السكك الحديدية، وقطعت وسائل الاتصالات أكثر من مرة، وقد أبدت بريطانيا بعض المرونة في مواجهة الاضطرابات واعمال الشغب فعينت الخديوي فؤاد ملكا ومنحت مصر دستورا ليبرالياً وتمثيلا نيابيا، بينما احتفظت لنفسها بسلطة الدفاع والسياسة الخارجية، فلم يكن هناك استقلال حقيقي، وقد شوهت بريطانيا بذلك روح الحداثة والحرية والاستقلال في أعين المصريين، ومع ذلك فقد ظهر بين المفكرين في مصر تلك الفترة من يؤيد علمانية الدولة ويعتبرها حجر الأساس في السعي نحو الحداثة والديمقراطية، و دعا إلى فك أواصر الارتباط بين الإسلام والدولة إلى غير رجعى من أمثال لطفي السيد و علي عبد الرازق.



[1] . عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي (1753 - 1825). هو مؤرخ مصري عاصر الحملة الفرنسية على مصر ووصف تلك الفترة بالتفصيل في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» والمعروف اختصاراً بـ «تاريخ الجبرتي» والذي يعد مرجعاً أساسياً لتلك الفترة الهامة من الحملة الفرنسية. ويكيبيديا

[2] . الخديوي إسماعيل (31 ديسمبر (ك 1) 1830 - 2 مارس(آذار) 1895)، خامس حكام مصر من أسرة محمد على باشا وذلك من 18 يناير 1863 إلى أن خلعه عن العرش السلطان العثماني تحت ضغط كل من إنجلترا وفرنسا في 26 يونيو 1879. في فترة حكمه عمل على تطوير الملامح العمرانية والاقتصادية والإدارية في مصر بشكل كبير ليستحق لقب المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد إنجازات جده محمد علي باشا الكبير.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم