المسلمون والحداثة: 2- إيران والحداثة

 أما في إيران فقد برزت دائرة من المفكرين والكتاب والسياسيين الذين أبدوا إعجابهم بالثقافة الغربية من أمثال ملكوم خان (1833-1908) وميرزا آغا خان كرماني (1853-1896) وأرادوا إنشاء دولة علمانية معتقدين أن الدين (وهو المذهب الشيعي في حالتهم) يعرقل مسيرة التقدم. وكان كرماني مثلا يرى أن الدين لا بد أن يتخذ طابعا عمليا حتى يعود بالفائدة على الناس، فما فائدة البكاء على الحسين إذا لم يؤد إلى إنصاف الفقراء وإطعام الجياع؟ وما فائدة مناقشة أحكام الطهارة ومعراج النبي إلى السماء في الوقت الذي يبحث فيه الغرب سبل الطيران في السماء ليتفوق بذلك على الأمم الأخرى؟ لكن تصور هؤلاء المفكرين كان ساذجا ومحدودا، فقد تصوروا أن بإمكانهم نقل الحداثة الأوروبية إلى الشرق بمجرد محاكاة القوانين التي تنظم الدولة والمجتمع في الغرب، وانتحال العلوم الطبيعية التي تقوم عليها نهضتهم كما اعتقد محمد علي باشا، وجهلوا أن الحداثة جميع متكامل يبدأ من الفرد وطريقة تفكيره العلمية التي تنبذ الخرافة والأساطير، وتنتهي بجسد الأمة الذي يقوم على المساواة والعدل والإنصاف. 

وهكذا ففي مطلع القرن العشرين وبينما اعتقد المصريون أن سر نجاح الغرب هو تبنيه لأيديولوجيات قومية، رأى الإيرانيون أن السر يكمن في تبني حكومات الغرب لنظام الحكم الدستوري، وبدت الحاجة ملحة إلى إيجاد حكومة نيابية تكبح جماح الملوك الإيرانيين المستبدين، يوضح المفكر الليبرالي السيد محمد حسين الطبطبائي، وكان مجتهدا ليبراليا ذلك بالقول:

"إننا لم نر بأنفسنا نظاما دستوريا، إلا أننا سمعنا عنه، وأخبرنا الذين شاهدوا بلادا دستورية أن النظام الدستوري سيأتي بالأمن والازدهار إلى البلاد، وقد خلق هذا فينا حافزا وحماساً".

وخلافا لعلماء الدين المصريين الذين كانوا ينزوون انزواء دفاعيا في مؤسساتهم ومدارسهم كان العلماء الإيرانيون دوما على رأس التغيير وسيستمرون في لعب دور حاسم في المستقبل.

وحدث أن اندلعت أعمال شغب في عام 1905 على أثر ارتفاع أسعار السكر انضم العلماء واصحاب الفكر إليها، وهاجم ذوو الشعبية منهم الحكومة على المنابر وتوقفت الأعمال التجارية، وبعد عام وقع محمد علي الشاه الجديد على القانون الأساسي للدولة الذي كان نموذجا من الدستور البلجيكي، فافتتح أول مجلس كان يضم عددا كبيرا من علماء الدين المنتخبين، و كان الدستور الجديد يقضي بأن يطلب الحاكم موافقة المجلس على جميع الأمور الهامة، وأن يتمتع جميع المواطنين بغض النظر عن دياناتهم  بالمساواة أمام القانون، وضَمِن الدستور الحقوق والحريات الفردية وحرية الصحافة وتأسس حزبان أحدهما ديمقراطي يساري، والآخر محافظ تمكن من إضافة بعض البنود إلى الدستور لضمان مكانة الشريعة.

ولم يلبث أن استجد خلاف بين اليساريين العلمانيين الذين حاولوا علمنة أنظمة التعليم والدولة والمحافظين الذين كانوا يسعون من وراء الدستور إلى كف يد النظام الملكي المستبد عن تبذير أموال الدولة دون شرعنة النظام النيابي لاعتقادهم بأن الشرعية لا تكون إلا للإمام الغائب. وقد عبر الشيخ محمد حسين الغروي النائيني (1860-1936) عن ذلك بقوة في نصيحة وبيان للأمة نشر في النجف عام 1909 قال فيه: إن الحكومة النيابية هي أفضل ما يمكن أن يلي الإمام الغائب وإن تأسيس مجلس يستطيع كبح جماح الحاكم المستبد هو أمر يجدر بالشريعة أن تؤدي إليه، فالحاكم المستبد حاكم كافر والاستبداد خطيئة كبرى في الإسلام، وقد أُرسِل موسى ليكف يد فرعون عن استبداده بشعبه واستعباده لأمته منتحلا لنفسه صفات الله، لذلك فإن على المجلس النيابي بمن فيه من رجال دين أن يكفل طاعة الملوك لأوامر الله وشريعته.

كان الشاه هو أول من عارض الدستور بشدة وقاد انقلابا عسكريا عام 1908، استطاع من خلاله إغلاق المجلس وإعدام الإصلاحيين والعلماء البارزين، إلا أن الحرس الشعبي في تبريز قام بانقلاب مضاد في الشهر التالي وخلع الشاه ووضع ابنه القاصر على العرش ثم انتُخِب مجلس ثان، إلا أنه وكما حدث في مصر فقد أجهضت السلطات الأجنبية هذه الديمقراطية الوليدة، فقد دخلت القوات الروسية طهران في ديسمبر (كانون الأول) 1911 وقامت بإغلاق المجلس ولم يسمح له بالانعقاد مرة أخرى إلا بعد مرور ثلاثة أعوام.

وقد تنازعت إيران بعد الحرب العالمية الأولى القوى العالمية طمعا في نفطها فدخلت القوات البريطانية إلى جنوب البلاد والقوات الروسية إلى شمالها ثم انسحبت القوات الروسية بعد قيام الثورة البلشفية و ظهور الاتحاد السوفييتي فأعادت القوات البريطانية انتشار قواتها بالزحف نحو الشمال مما استدعى قيام المجلس بطلب المساعدة من روسيا السوفييتية والولايات المتحدة اللتان أجبرتا بريطانيا على نبذ خططها لكن الإيرانيين علموا أنهم بطلب المساعدة من الدول الأجنبية قد حصلوا على استقلال هش لن يصمد أمام أطماع الدول العظمى في نفطهم.

أمام الاستياء العام الذي ساد في تلك الفترة تمكن رضا خان (1944-1877) قائد الفرقة القوقازية في حكومة الشاه من إسقاط الحكومة والاستيلاء تدريجيا على الحكم بعد توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة ليتقي شر البريطانيين الذين كانوا يدسون أنفهم في كل صغيرة و كبيرة تتعلق بإدارة شؤون البلاد، بإعطاء الولايات المتحدة امتيازات في استخراج وتسويق النفط، وقطع شوطا بعيدا في القبض على زمام السلطة ممهدا بذلك لإقامة حكم سلالة بهلوي، واتجه إلى علمنة البلاد ناكصا بذلك عن الوعود التي عقدها للعلماء، ولم يقف عند حدود علمنة أتاتورك بل تفوق عليها.

لقد أدى الشعور الغامر بعدم الانتماء إلى مجتمع الحداثة الغريب عن المجتمع إلى ظهور نزعة دفاعية عن الذات والهوية أدت إلى تحصن الكثيرين وراء سياج من التراث القديم مع بداية القرن العشرين، وهذا ما نطلق عليه تعبير الأصولية اليوم.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم