روعة البيان القرآني في تصوير الكون من خلال الظلال
الظل في اللغة نقيض
الضِح (بالكسر) ونقول: ظل بالغداة أو فيء بالعشي، ومكان ظليل ذو ظل، والظلة شيء
كالصفة يستتر به من الحر والبرد.
وبالتعريف الهندسي، هو
المنطقة المظلمة التي تتشكل عندما يعترض جسم ما مسار الضوء. بمعنى آخر، هو غياب
الضوء نتيجة لوجود جسم يحجب مصدره.
من الناحية الفنية نميز
خمسة عناصر للتظليل تُعدّ ضرورية لإضفاء الواقعية والعمق على رسوم الأجسام التي
تحدث الظل وجعلها ثلاثية الأبعاد، إذ يُمثّل كل عنصر منها أسلوبًا مختلفًا لتفاعل
الضوء مع الجسم:
1. الضوء الكامل: وهو أشدّ
مناطق الإضاءة سطوعًا، حيث تسقط أشعة الضوء مباشرة على الجسم: ويقابل وضح النهار
إذا أخذنا ضياء الشمس للأرض مثالاً.
2. نصف الظل: منطقة انتقالية
بين الضوء الكامل والظل، وتُظهر تدرجًا في شدة الإضاءة. وتقابل الفجر الكاذب في
الغدو أو الغسق عندما يقترب الليل بالنسبة للأرض.
3. حافة الظل (الظل الأساسي):
أظلم نقطة على الجسم ذاته، حيث يُحجب الضوء بالكامل. وهو الليل الذي يغشى نصف
الكرة الأرضية تماما.
4. الضوء المنعكس: ضوء
خافت يرتد من الأسطح المحيطة ليضيء أجزاء من الجسم، ويكون عادةً قريبًا من منطقة
الظل الأساسي. كضوء القمر الذي ينعكس على
الأرض ليلاً.
5. الظل المُلقى: هو الظل
الذي يُسقطه الجسم على السطح الذي يستقر عليه، ويكون في الجهة المعاكسة لمصدر
الضوء. مثل الخُسوف الذي يحدث عندما تحجب الأرض ضوء الشمس عن
القمر، فيقع القمر في ظل الأرض، ويظهر مظلمًا أو مائلًا إلى الحمرة.
يشكل
الجسم الحقيقي وظله ثنائية متناغمة لا تنفصل إذ يعكس الظل على الدوام حالة الجسم
الحقيقي الذي يصدر عنه، لذلك يمكن النظر إلى هذه العلاقة بين الحقيقة كموضوع وظلها
أو أثرها كموضوع فلسفي في تقصي الحقيقة من خلال آثارها.
تتجلى روعة البيان القرآني في وصف الكون من خلال مشاهد الظلال التي ترتسم في أرجائه كما سنرى في الفقرات التالية:
1.
كروية الأرض:
يقول
تعالى:
"أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ
كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ
عَلَيْهِ دَلِيلًا. ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا" سورة الفرقان
45-46
لإظهار
وجه الإعجاز العلمي في الآية السابقة قامت دراسة[1] بتقصي
أسلوب "مد الظل" في المناطق المختلفة من الكرة الأرضية من خلال طول ظل
شاخص ارتفاعه 5م في بعض خطوط العرض المختلفة (في نصف الكرة الشمالي) بدءا من خط
الاستواء وانتهاء بالقطب الجغرافي الشمالي، وقد روعي في اختيار خطوط العرض أن تكون
ممثلة للمناطق المناخية المختلفة تمثيلا نموذجيا، أي المنطقة المدارية الحارة
(الواقعة بين المدارين)، والمنطقة المعتدلة (الواقعة بين مدار السرطان والدائرة
القطبية الشمالية)، وأخيرا المنطقة القطبية الباردة.
وقد تم اختيار أيام 21 يونية (الانقلاب الصيفي) حيث تصل زوايا ارتفاع الشمس فيه
إلى أكبر قيمة لها، و21 ديسمبر (الانقلاب الشتوي) حيث تكون زوايا ارتفاع الشمس في
أقل قيمة لها، ويومي 21 مارس وسبتمبر (الاعتدالين)، كما تم اختيار خمس ساعات يوميا
بكل خط عرض من الخطوط المختارة، وقد روعي في اختيار الساعات أن تكون موزعة بانتظام
على مدار اليوم، الساعة الأولى بعد شروق الشمس والثانية ما بين الشروق ومنتصف
النهار(الزوال)، والثالثة في منتصف النهار تماما، والرابعة في الوقت ما بين منتصف
النهار وقبل غروب الشمس، أما الساعة الأخيرة فهي قبل غروب الشمس.
وقد تم الاستعانة بأحد برامج الحاسب الآلي الذي يحتوى على معادلات فلكية تقوم
بحساب الزوايا الشمسية وزوايا الظل الخاصة بكل خط عرض، وعلى أساس مخرجات البرنامج
تم حساب طول ظل الشاخص المقابل لكل ساعة في كل خط عرض مختار باستخدام برنامج
كمبيوتر مبسط معد خصيصا لذلك.
وقد
أظهرت النتائج التي توصلت إليها الدراسة اختلاف أطوال الظلال بالنسبة لكل ساعة
زمنية محددة على خط الطول الواحد وخطوط العرض المختلفة بما لا يدع مجالا للشك أن
الأرض يجب أن تكون كروية لا مسطحة، وذلك لأنها لو كانت مسطحة لتساوت أطوال الظلال
في التوقيت الزمني نفسه عند خطوط العرض المختلفة. وكما هو معروف فان حقيقة كروية
الأرض لم تثبت على وجه اليقين إلا بعد نزول القرآن الكريم بعدة قرون، وهو ما يشير
إلى أن آية "مد الظل" تدل من خلال حركة الظل على كروية الأرض.
2.
دوران الأرض حول
محورها:
من
المعروف أن الشمس عند طلوعها صباحا من جهة الشرق وحتى منتصف النهار (وقت الزوال) فإن
ظلال الأجسام تقع جهة الغرب، حتى إذا اتجهت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي
(جهة الغرب) وقعت ظلال الأجسام في الجانب الشرقي.
ويلاحظ
أن أطوال الظلال تكون أكبر ما يمكن عند شروق الشمس ثم تبدأ في التناقص كلما ارتفعت
الشمس في السماء، حتى تصل إلى وقت الزوال وفى هذه الحالة نجد أن ظلال الأشياء على
اختلافها تكون أقصر ما يمكن، ثم بعد انتقال الشمس إلى جهة الغرب تبدأ ظلال الأشياء
في الامتداد مرة أخرى إلى أن تصل إلى أقصى طول لها وقت غروب الشمس، أي أن العلاقة
بين الشمس والظلال وطيدة ومتلازمة فبقدر ما ترتفع الشمس عاليا بقدر ما ينقص طول
ظلالها ، وكما أن المهتدى يهتدي بالهادي والدليل يلازمه فكذا الظلال كأنها مهتدية
وملازمة للضياء. هكذا جعل الله تعالى الشمس دليلا على الظل.
الظل
يتحرك إذا حركتين متلازمتين ومتزامنتين، ألا وهما حركة انتقال الظلال من جهة لأخرى
وحركة الامتداد أو الانقباض، وقد أوضح الله سبحانه وتعالى أسلوب حركة الظل إجمالا
في الآية الخامسة عشر من سورة الرعد، حيث يقول جل في علاه:" ولله يسجد من في
السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال"، حيث ذكر ظلال الأشياء
في الغدو (أول النهار) وظلالها في الآصال (آخر النهار). وبذلك جمع بين حركة الظل
في الاتجاهين وبين انقباضه وانبساطه من أول الليل إلى آخر النهار. وهذا يعنى أن
تحديد الآية الكريمة وذكرها لظلال الغدو والأصال بالذات قد أشار وجمع بين حركتي
الظل المتلازمتين والمتزامنتين في الوقت نفسه، وهما حركة الانتقال من جهة لأخرى،
والحركة بالامتداد والانقباض.
إن
تنبيه القرآن الكريم للتفكر في "مد الظل" أو طول الظل على مدار اليوم
وانتقاله من جهة لأخرى، يشير بما لا يدع مجالا للشك إلى دوران الأرض حول محورها
أمام الشمس وذلك بإشارته إلى أن الشمس هي الدليل على مد الظل، وذلك لأن الدليل في
اللغة هو المرشد وما يستدل به وهو الشيء الذي تقاس الأشياء بالنسبة له، وهو ما يتفق
مع الواقع والعلم الحديث.
وإذا أضفنا إلى ذلك ماورد من وصف في سورتي الرعد والنحل من انتقال الظلال من جهة
الغرب إلى جهة الشرق كما سبق وأوضحنا، فان هذا يحدد بأن دوران الأرض حول محورها
أمام الشمس يجب أن يكون من جهة الغرب إلى الشرق أي عكس عقارب الساعة، وهو ما أكدته
الحقائق العلمية الحديثة أيضا، والتي لم يتم التثبت منها إلا بعد نزول القرآن
الكريم بعدة قرون.
إن
دوران الأرض حول محورها أمام الشمس تؤكده كذلك الآية الكريمة من سورة النمل (الآية
88):
"وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب،
صنع الله الذي أتقن كل شيء، إنه خبير بما تفعلون"
في
ضوء المعارف العلمية الحديثة، يرى بعض العلماء أن هذه الآية تشير إلى حركة الأرض،
رغم أن الإنسان يظنها ساكنة. فالجبال تبدو للناظر ثابتة، لكنها في الحقيقة تتحرك
مع حركة الأرض، كما تمر السحب في السماء. وهذا يتوافق مع ما أثبته العلم من دوران
الأرض حول محورها وحول الشمس.
وقد علّق الشيخ الطاهر
بن عاشور على هذه الآية بقوله: "الجبال هي الأجزاء الناتئة من الأرض، فإذا
كانت تمر، فالأرض كلها تمر، وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من
الجانب العلمي يدركها العلماء"
3.
الإعجاز في وصف قبض
الظل باليسير:
(تأمل
في قوله تعالى: "ثم قبضناه إلينا قبضًا
يسيرًا" (الفرقان: (46)
في
هذه الآية الكريمة، يكشف القرآن الكريم عن ملمح إعجازي دقيق، يتجلى في وصفه لظاهرة
"قبض الظل" بلفظ "يسيرًا"،
حيث إنّ "القبض" نقيض "المد"، ويعني النقص والانكماش. ولإدراك
دقة هذا التعبير، نستعرض مقارنة علمية بين قبض الظلال في منطقتين متباينتين جغرافيًا:
خط الاستواء والمنطقة القطبية الشمالية.
أولًا:
عند خط الاستواء في الاعتدالين (21 مارس و21 سبتمبر)
- تكون الشمس عمودية تمامًا عند الظهر،
بزاوية قدرها 90 درجة.
- يتساوى طول النهار والليل بـ 12 ساعة لكلٍ
منهما.
- يمتد الظل لأقصى طول بعد الشروق وقبيل الغروب،
ويختفي كليًا عند الزوال.
- من شروق الشمس إلى منتصف النهار (الساعة
12 ظهرًا) يتم قبض الظل خلال 6 ساعات، أي أن زاوية ارتفاع الشمس تزداد بمعدل 15
درجة كل ساعة.
- هذا يعني أن قبض الظل يجري بسرعة ويسر، أي
بسهولة وسلاسة.
ثانيًا:
في القطب الشمالي (من 21 مارس حتى 21 يونيو)
- يستمر النهار لفترة تقارب ستة أشهر
متواصلة.
- تزداد زاوية ارتفاع الشمس يوميًا بحوالي 0.25 درجة، أي بمعدل 0.01
درجة في الساعة فقط.
- وبالتالي، يستغرق قبض الظلال ما يقرب من ثلاثة
أشهر حتى تبلغ الشمس أقصى ارتفاع لها عند 23.5 درجة يوم 21 يونيو.
المقارنة
والإعجاز:
- عند خط الاستواء: قبض الظل يتم بسرعة
عالية (6 ساعات فقط)، ويتسم باليسر بمعنى السهولة والسرعة.
- في القطبين: يتم قبض الظل ببطء شديد على
مدى 180 يومًا، ويتسم باليسر
بمعنى القِلّة والانسيابية التدريجية.
وعليه،
فإن استعمال لفظ "يسيرًا" جاء بمنتهى الدقة
والبلاغة، ليعبّر عن قبض الظلال سواءً تم بسرعة أو بتدرج بطيء، مما يشير إلى إعجاز
بياني وعلمي باهر في اختيار المفردات، سبق زمن الاكتشافات الجغرافية والعلمية
بقرون.
4.
الإعجاز في وصف الليل
بأنه الظل المتشكل على نصف الكرة الأرضية البعيد عن الشمس:
يقول
تعالى:
"إن
ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل
النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك
الله رب العالمين" سورة الأعراف - آية 54
"خلق
السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس
والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار" الزمر - آية 5
من الملامح
الاعجازية التي وردت في الآيات السابقة هي وصف تعاقب الليل والنهار وصفا دقيقا لا
يستطيع أن يقوم به إلا من يراقب حركة الأرض أمام الشمس من الفضاء البعيد وكيف
تتداخل ظلال الليل في خيوط النهار في تعاقب حثيث لا يكل ولا يمل، ويقابلها بحركة
النجوم والأقمار والأجسام السماوية الأخرى التي تنتظم في دقة حركتها انتظاما تعجز
عنه أدق الساعات التي نعرفها، بل إننا نضبط ساعاتنا الأرضية على دقة حركة الأقمار
والنجوم. ألا يدل ذلك كله على قدرة الحي القيوم الذي تقوم بأمره السماوات والأرض
دون أن تأخذه سنة ولا نوم؟
حتى نوضح
العلاقة بين ذكر الظل وذكر الليل والنهار في كثير من الآيات المتعاقبة، فإننا نذكّر
مرة أخرى بكيفية تكون الظلال التي أوردناها في بداية البحث، حيث أوضحنا أنه إذا
تعرض أي جسم للإشعاع الشمسي، فان الجانب المعرض مباشرة للشمس يكون مضيئا، أما
الجانب الآخر من الجسم فيكون في الظل وهو ما يعرف بالظل الذي يلقيه الجسم بنفسه
على نفسه (الظل الحقيقي)، وبتطبيق هذه الحقيقة المشاهدة على جسم كروي (كرة)، فإننا
نرى أن نصف الكرة غير المعرض للضوء يقع في الظل الحقيقي، وهذا الظل يمثل ظل نصف
الكرة الأرضية الذي يغشاه الليل : "والليل إذا يغشي. والنهار إذا تجلى" الليل
- آية 1-2
وبنفس
الكيفية السابقة يحدث الليل والنهار على الكرة الأرضية، فمن المعروف أن الشمس تقع
في مركز المجموعة الشمسية وأن الأرض تدور حول الشمس دورة كاملة كل عام مما ينتج
عنه فصول السنة المختلفة، كما أن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة كل 24 ساعة مما
يحدث الليل والنهار، وذلك لأن نصف الكرة الأرضية المعرض للشمس يمثل النهار كما أن
نصف الكرة الآخر الواقع في الظل يمثل الليل.
إن
الليل ما هو إلا ظل الأرض الموجود على نصفها البعيد من الشمس، وفى ذلك يقول
الدكتور زغلول النجار (28):" يقال لظلمة الليل على وجه الاستعارة ظل الليل،
وهو في الحقيقة ظل نصف الأرض الذي يعمه نور النهار ملقى على النصف الآخر للأرض،
ولكن بسبب انغماسه في ظلمة الكون يفضل تسميته بظلمة الليل، حيث تلتقي ظلمة الأرض
بظلمة الكون"، كما ورد في موضوع بعنوان "ميكانيكية الظل" ما يلي (29):"
يعتبر الليل الذي نراه في نصف الكرة الأرضية علميا ظل وجه الأرض المقابل للشمس على
نصف الأرض البعيد عن الشمس".
إذن
فمن الناحية العلمية فان الليل الذي نراه في نصف الكرة الأرضية البعيد عن الشمس ما
هو إلا ظل وجه الأرض المضيء المواجه للشمس، وفى الطبيعة أيضا فان مخروط ظل الأرض
يمكن رؤية أثره بوضوح عند حدوث خسوف للقمر سواء كان جزئيا أو كليا، شكل (8)، وذلك
لأن سبب حدوث الخسوف الكلى للقمر هو وقوعه أو مروره في منطقة مخروط ظل الأرض
(والتي تمثل الليل)، كما أن سبب حدوث ظاهرة الخسوف الجزئي هو وقوع أو مرور القمر
بمنطقة شبه ظل الأرض (33).
إن وجود ظل للأرض حقيقة علمية ثابتة ومشاهدة أيضا، كما أن ظل
الأرض (الذي يمثل الليل) يكون دائما في نصف الكرة الأرضية البعيد والمحجوب عن
الإشعاع الشمسي المباشر، وأن هذا الظل يتمثل في مخروط من الظل ممدود في الفضاء،
وهنا يتضح وجه الإعجاز العلمي الواضح في ذكر الليل بعد آيتي الظل في سورة الفرقان،
لأنه في وقت نزول القرآن الكريم لم تكن حقيقة أن الليل ما هو إلا ظل معروفة لأي
إنسان، وهو مما يعد إعجازا وسبقا قرآنيا منذ حوالي أكثر من أربعة عشر قرنا.
5.
امكانية وجود الظل
الساكن:
يقول
تعالى:
"قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ..." "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا..." القصص: 71–72
المعنى
القرآني:
- الليل السرمدي: يعني ظلامًا
دائمًا، لا نهار بعده.
- النهار السرمدي: يعني ضوءًا
دائمًا، لا ليل بعده.
الآيتان
تصوران حالة افتراضية، يلفت الله بها أنظار الناس إلى عظيم نعمته في تعاقب
الليل والنهار. فلو جعل الله أحدهما دائمًا (سرمدًا)، لاختل نظام الحياة، ولتعذرت
الراحة أو العمل، ولأدى ذلك إلى اندثار الحياة على الأرض.
وهذا
التصوير يهدف إلى إيقاظ الفطرة، وتذكير الإنسان بأن تعاقب الليل والنهار
نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا إذا اختلت.
ونتساءل:
كيف يمكن لليل أو النهار أن يصبحا دائمين.
من
منظور علمي:
رغم
أن الأرض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، إلا أن هناك مناطق على الأرض تشهد
ظواهر قريبة من "الليل أو النهار الدائم":
- في القطب الشمالي والجنوبي، يحدث
ما يُعرف بـ:
- النهار القطبي: يستمر
النهار لعدة أشهر دون غروب.
- الليل القطبي: يستمر
الظلام لعدة أشهر دون شروق.
لكن
هذه الحالات مؤقتة ومحدودة جغرافيًا، وليست سرمدية.
هل
يمكن أن يحدث ليل أو نهار دائم فعليًا؟
- نعم، نظريًا: لو توقفت الأرض عن
الدوران حول محورها، فسيبقى أحد وجهيها في مواجهة الشمس (نهار دائم)، والوجه
الآخر في ظلام دائم (ليل دائم).
- لكن هذا سيؤدي إلى كارثة بيئية وهي احتراق وجه الأرض المواجه للشمس، وتجمّد
الوجه الآخر.
الخلاصة:
الآية
لا تصف واقعًا، بل تضرب مثلاً لتُظهر عظمة الخالق، وتدعو الإنسان للتفكر في
نعمة تعاقب الليل والنهار، وتوازن الكون.
"ومن رحمته جعل لكم
الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" القصص: 73
كيف
يرتبط هذا المعنى بالإعجاز العلمي في دوران الأرض حول محورها؟
لقد
أشار القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة الكونية بلغة بليغة قبل أن يكتشفها العلم
الحديث بقرون طويلة.
فالليل والنهار لا يتعاقبان إلا إذا كانت الأرض تدور حول محورها أمام الشمس.
- لو كانت الأرض ثابتة، لبقي أحد وجهيها في
نهار دائم، والآخر في ليل دائم.
- دوران الأرض حول محورها كل 24 ساعة يسبب
هذا التعاقب المنتظم، وهو ما نراه يوميًا.
لقد وردت
إشارات قرآنية أخرى كثيرة إلى هذا المعنى:
- "يُكَوِّرُ
اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ"
الزمر: 5.
كلمة "يُكَوِّرُ" مأخوذة من
"تكوير العمامة"، أي لفّها، وهي صورة دقيقة لحركة الليل والنهار
على سطح كروي.
- "وَلَا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" يس: 40 يشير إلى أن الليل والنهار لا يسبق أحدهما
الآخر، بل يتعاقبان بدقة، نتيجة دوران الأرض.
- "يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ" الحديد: 6 أي يُدخِل أحدهما في
الآخر تدريجيًا، وهو ما يحدث بسبب ميل محور الأرض ودورانها.
وجه
الإعجاز العلمي:
- هذه الآيات نزلت في زمن لم يكن فيه أحد
يعلم أن الأرض تدور.
- لم يستخدم القرآن مصطلحات علمية، بل
استخدم صورًا بيانية دقيقة تصف الحقيقة العلمية بلغة يفهمها الناس في
كل العصور.
- العلم الحديث أثبت أن الأرض كروية وتدور
حول محورها، وهو ما تطابق تمامًا مع الوصف القرآني.
إذًا،
تعاقب الليل والنهار ليس مجرد ظاهرة بصرية، بل هو نتيجة مباشرة لدوران الأرض،
وقد أشار القرآن إلى ذلك بلغة إعجازية قبل أن تصل إليه البشرية بأدواتها العلمية.
6.
احتمال وجود حياة على
كواكب شبيهة بالأرض:
ورد
ذكر سجود الظلال لله جل في علاه في قوله تعالى:" ولله يسجد من في السماوات
والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال" (الرعد:15)،
- تشير الآية إلى أن من في السماوات والأرض
وظلالهم يسجدون لله في أوقات محددة، أي في الصباح والمساء، حيث تكون حركة الظل
أوضح ما تكون. وفي آية أخرى يشير تعالى إلى أنه قد بث في السماوات دواب أيضا
كما في الأرض. يقول تعالى:
·
﴿وَمِنْ
آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ﴾
[الشورى: 29] هذه من أبرز الآيات التي تُلمّح إلى وجود مخلوقات حية في السماوات
كما في الأرض، وقد فُسّرت بأنها تشمل الملائكة، وربما غيرهم.
- وكلمة
"دابة" في
اللغة العربية مأخوذة من الفعل دبّ، أي مشى على الأرض،
وتُطلق على كل ما يدبّ أو يتحرك على وجه الأرض، سواء كان إنسانًا، حيوانًا،
أو حتى حشرة. كما في
قوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ﴾ [النور: 45] ثم فصّل:
منهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع. وهذا
لا ينطبق على وصف الملائكة التي هي كائنات من نور، أي لا ظلال لها ولا تدب
على الأرض فلابد من أن تكون الإشارة إلى كائنات أخرى شبيهة بدواب الأرض تعيش
على كواكب أخرى.
- لكن ما علاقة السماوات بالأرض؟ يقول تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12] بعض المفسرين رأوا في "ومن الأرض مثلهن" احتمال وجود عوالم
أرضية أخرى، لكن التفسير ليس قاطعًا.
- من الناحية العلمية يعتقد العلماء
أن الاحتمال
كبير جدًا لوجود حياة، ولو على شكل
كائنات دقيقة، في أماكن أخرى من الكون. فالكون يحتوي على مئات
المليارات من المجرات، وكل مجرة تحتوي على خفي مئات المليارات من النجوم،
ومعها كواكب لا تُعد ولا تُحصى. فليس من المعقول أن نكون الكائنات الوحيدة في
الكون. وهذه إشارة إعجازية إلى موضوع كان الحديث عنه حتى العصور الحديثة بحكم
الخيال.
وهكذا
نرى أن القرآن الكريم، بأسلوبه الإعجازي البليغ، قد رسم لنا تصورًا مذهلًا عن شكل
الأرض الكروي، وبيّن بوضوح دورانها حول نفسها مما ينتج عنه تعاقب الليل والنهار،
وكذلك دورانها حول الشمس الذي يُحدث تغيّر الفصول واختلاف الأزمنة. وقد أشار
سبحانه في مواضع عدة، بدقة لغوية خفية وتلميحات بلاغية عميقة، إلى حركة النجوم
والكواكب في مداراتها المنتظمة، وما يترتب على ذلك من ظواهر مثل الخسوف والكسوف.
بل ذهب أبعد من ذلك، فألمح – بما يدعو للتأمل – إلى إمكان وجود حياة في عوالم أخرى، على كواكب قد تشبه الأرض من حيث التكوين والبيئة. وهذه الصورة الكونية الشاملة تُبرز أمامنا لوحة متكاملة من الانسجام والدقة، كأنها سيمفونية كونية تشهد على عظمة الخالق، وتشابه النظام والحركة في أرجاء الكون الواسع، من الذرة إلى المجرة، ومن
تعليقات
إرسال تعليق