لُغزُ المادة المضادة
هل يسري مبدأ الزوجية حقا على ما في الكون جميعا؟ أليست بعض هذه
الكائنات وحيدة الخلية و تتكاثر بالإنقسام بدلا من التزاوج؟
لو تتبعنا كلمة زوج في أمهات المعاجم لتبين أن لها عدة معان منها:
القرينان؛ كالخير و الشر و الظلمات و النور، و الظل و الحرور، و الجوهر و العرض، و
كل ما يقترن بآخر مماثل له أو مضاد، فمفهوم الزوجية لا يقتصر على الذكر و الأنثى
بل يشمل التناظر الرائع في الكون كله. يكفينا بالنسبة للكائنات الحية أن الزوجية
تتضح في بناء اللبنات الأولى التي تحمل شيفرة خلق كل كائن حي بداخل نواة الخلية
على هيئة لولب مزدوج الجانب:
الزوجية في الحمض النووي الريبي
يُبني كل جزيء من جزيئات الحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين (DNA) على هيئة سلم حبلي مفتول (أو لولب مزدوج)
تتضح الزوجية في جانبيه المصنوعين من جزيئات سكر الريبوز منقوص الأوكسجين، و
جزيئات من الفوسفات، كما تتضح الزوجية في درجات هذا السلم إذ تتكون كل درجة من
درجاته من زوج من أربع قواعد نتروجينية هي: (Adenine=A) و الثيامين (Thymine=T) و الجوانين (Guanine=G) و السيتوسين (Cytosine=C) فيرتبط الأولان معا
و يرتبط الأخيران معا في زوجية واضحة ليشكل كل زوج منهما درجة من سلميات جزيء
الحمض النووي الريبي على شكل نويتين تتكون كل منهما من قاعدة نتروجينية مستندة إلى
زوج من السكر و الفوسفات، تأكيدا على الزوجية في خلق الأحياء من أدق الدقائق إلى
أكبر الوحدات.
لكن ما يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو المادة التي لاحياة فيها و مكوناتها من أجسام فائقة الدقة تعرفنا عليها في مقال سابق، فهل لهذه المادة زوج أو نظير؟
لكن ما يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو المادة التي لاحياة فيها و مكوناتها من أجسام فائقة الدقة تعرفنا عليها في مقال سابق، فهل لهذه المادة زوج أو نظير؟
يعتبر مفهوم نظير المادة أو ضد المضادة ( Anti Matter) من المفاهيم المهمة التي تناولتها
الفيزياء الحديثة بالبحث، فما هي المادة المضادة؟ وهل يمكن اعتبارها أحد أشكال
التناظر الكوني، أو الزوجية الكونية ... و هل سنجد هذه الزوجية الآن تفرض نفسها في
عالم الدقائق؟
لقد ظهر مفهوم المادة المضادة أول مرة في أعمال العالم الفيزيائي
النظري (بول ديراك 1902-1984) الذي كان يطمح إلى بناء نظرية تصف الإلكترون في
الثلاثينات، إنما اعترضته مشكلة مؤداها أن حساباته وصفت جسيماً يماثل الإلكترون في
الكتلة ويعاكسه في الشحنة الكهربائية، هذا الجسيم لم يكن قد شوهد قبل ذلك أبداً، لكن
سرعان ما اتضح وجوده تجريبياً من خلال أعمال (كارل أندرسون 1905-1991) الذي كشف عن
أثر ينحني في الاتجاه المعاكس لمسار الالكترونات ضمن الحقل المغناطيسي، ثم أمكن
قياس كتلة الجسيم المضاد للإلكترون، وسمي (بوزيترون-Positron).
لم يلحظ (ديراك) في تلك الآونة شمولية ما توصل إليه، والواقع أن هذا
التفرع: جسيم/جسيم مضاد، هو تفرع كوني شامل يتجاوز حالة الإلكترون، الأمر الذي
وعاه الفيزيائيون تدريجياً بعد ذلك، فقد تبين فعلاً، أن إنشاء نظرية متكاملة لوصف
جسيم ما، يُظهر تلقائياً ضرورة وصف منظر ينطبق على ما سندعوه منذ الآن (الجسيم
المضاد)، ومن المستحيل أن نتخيل وجود جسم دون أن يكون مضاده موجوداً، وكما أن هناك
إلكترون مضاد سميناه (بوزيترون) فلابد من وجود بروتون مضاد إلا أن كشفه يحتاج إلى
كمية من الطاقة أكبر بكثير مما يحتاجه كشف البوزيترون، وكان لابد من الانتظار حتى
الخمسينات حين ظهرت مسرعات للدقائق،
لها من القوة ما ساعد على الكشف عن البروتون المضاد.
التلسكوب الفضائي:
NASA's Reuven Ramaty High Energy Solar Spectroscopic Imager-RHESSI
في عام 2002.[2] :
مسرعات الدقائق،
Symmetry, Anti Matter, Positron, Photon
مقالات و مقتطفات ذات علاقة:
الجسيم المضاد يتجلى إذاً بعكس الشحنة الكهربائية، لكن ما هو وضع
جسيم غير مشحون، كالنيوترون مثلاً؟ هل ثمة نيوترون مضاد؟
لقد تعلمنا في السنوات الأخيرة أن الشحنة الكهربائية ما هي إلا واحدة
من شحنات أخرى، فالدقائق (الأولية) تحمل عدة أنواع أخرى من الشحنات، لكن الشحنة الكهربائية هي المألوفة لدينا لوفرة ما
تبديه من ظواهر على الصعيد المرئي (الصعيد الجسمي)، هناك شحنات أخرى لا تظهر إلا
في التأثيرات المتبادلة ذات المدى القصير جداً، كالتأثير المتبادل النووي، من ذلك
شحنة تدعى (الشحنة الباريونية) التي تمتاز بها الجسيمات الثقيلة أو
(الباريونات)،كالبروتون، والنيوترون.
إن شحنة النيوترون الكهربائية معدومة حقاً، لكنه يحمل شحنة أخرى، هي
الشحنة الباريونية، فلا بد إذاً من وجود نيوترون مضاد، شحنته الكهربائية معدومة،
لكنه يحمل شحنة باريونية مناظرة لشحنة النيوترون.
عندما تتفاعل المادة مع المادة المضادة، تعطيان مجموعة حيادية ، هذه
المجموعة قد تكون ضوءاً أو مجموعة الإشعاعات الحيادية (التي لا ضد لها) مثل
(الموزونات بي) كما يحدث عندما يلتقي بروتون و مضاده.
لقد علمنا أن الفوتونات و هي الدقائق الأولية التي يتشكل منها الضوء
عبارة عن دقائق ليس لها كتلة، أو بقول آخر: إن طاقتها كلها طاقة حركية، وهذا يعني
أن الإلكترون و البوزيترون قد تحولا أثناء تلاقيهما إلى طاقة حركية، ففي تلاقي
الإلكترون مع البوزيترون ظهرت طاقة كانت مستترة وكامنة، لأنها كانت مخزونة على شكل كتلة، لقد ظهرت من خلال هذا
اللقاء حقيقة المادة الأولى و هي الضوء أو النور،
الذي كان أسير المادة.
يتفانى الإلكترون و البوزيترون عندما يلتقيان و يتحولان إلى ضوء
هناك بعض الدقائق التي ليس لها شحنة كهربائية ولا باريونية ولا غيرها
على الإطلاق، كالفوتون مثلاً، في هذه الحالة لا يوجد فرق بين
الدقيقة و ضدها، فيصح القول أن الفوتون المضاد مطابق للفوتون، أو بتعبير آخر فإنه
في حالة الفوتون لا يمكن تمييز الدقيقة من ضدها، أو أن الدقيقة نفسها متناظرة، ولا
حاجة لشيء آخر مناظر، و كأن الفوتونات التي تنتج الضوء هي محور تناظر الكون، أو أن
الضوء يلعب دور المستند المطلق أو المرجع الكوني الثابت وهذا ما يبين غنى وتعقد
الأفكار المتعلقة بفهم المادة.
عندما يلتقي جسيم مع مضاده، تحدث ظواهر شديدة
العنف إذ تتحرر كمية كبيرة من الطاقة إثر هذا اللقاء، فتتفانى المادة و ضدها
تماماً وتتحولان بالكامل إلى طاقة بعكس ما يحدث في التفاعلات الذرية أو النووية
التي يتحول خلالها جزء يسير من المادة فقط إلى طاقة بينما تتحول معظم مادة التفاعل
إلى رماد ذري و أنواع أخرى من المادة و النظائر المشعة، كما رأينا في لقاء الإلكترون و البوزيترون، فقد تفانى الإثنان و انتجا ضوءاً صرفا بدون بقايا. مثل هذه التفاعلات العنيفة لاتحدث في مسرعات الجسيمات الدقيقة كمفاعل (CERN) في سويسرا
فقط، بل تحدث على مرأى من أعيننا خلال الانفجارات العنيفة التي تقع على الشمس،
فقد رصد البروفسور بيركلي (Berkeley) و فريقه من جامعة كاليفورنيا ظهور حوالي نصف كيلو
غرام من المادة المضادة أثناء كل انفجار مستخدمين التلسكوب الفضائي:
NASA's Reuven Ramaty High Energy Solar Spectroscopic Imager-RHESSI
في عام 2002.[2] :
رُصدت المادة المضادة بدراسة الانفجارات التي
تحصل باستمرار على الشمس
لقد
تصاحب الانفجار الأعظم (Big Bang) الذي آذن ب بداية الكون بظهور المادة و ضدها معا، و المحيِّر في الموضوع أنهما لم تتفانيا، و
لو حدث ذلك لما وُجدنا أصلا، علما بأننا نعيش في عالم تغلب المادة (و ليس ضدها)
على تكوينه. يعتقد العلماء أنه و في لحظة قصيرة جدا جدا (في ثانية مقسومة على 10
أمامها 35 صفرا) حصل ما لا يعرف سببه أحد و أدى إلى زيادة إنتاج المادة على حساب
ضدها، و كان ذلك أحد أسباب وجودنا اليوم [1]:
إن تفاني المادة وضدها يمكن أن يغدو مصدراً لطاقة المستقبل، بعد أن
أصبح حقيقة علمية تحدث في المخابر كل يوم لأهداف علمية فقط.
ستكون الخطوة التالية في تطور تقنيات الجسيمات المضادة، هي تصنيعها
وتخزينها على شكل ذرات وجزيئات هيدروجين مضادة، وهذا لن يكون سهلاً، إذ يجب تفخيخ
عدد كبير من البوزيترونات، ومن ثم وضع بروتونات مضادة في المصيدة نفسها، وبالتالي
فإن البروتون المضاد سيأسر بوزيترون ليكونا معاً هيدروجين مضاد.
لقد تبين أن تخزين الناتج أصعب من تصنيعه لأن ذرة الهيدروجين المضادة
لا تملك شحنة كهربائية، لذا لا يمكن التأثير عليها بواسطة المجال الكهربائي، ولا
يمكن أن تحفظ في القارورة التي تحوي البروتونات المضادة و البوزيترونات، لذلك وضع
العلماء عدة اقتراحات لحفظ وتخزين هذه المادة المضادة يعتمد أحدها على الاستفادة
من (قفص) مصنوع من حزمة ليزرية فوق بنفسجية، هناك اقتراح آخر يستند إلى كون
الهيدروجين المضاد مادة معاكسة مغناطيسياً، لذا فإن المجالات المغناطيسية الجبارة
تدفعه بعيداً.
يمكن تصميم مجال مغناطيسي قوي، ثلاثي الأبعاد على هيئة كأس، فيلعب
هذا الترتيب دور المصيدة للهيدروجين المضاد، الذي نحصل عليه في هذه الطريقة على
شكل كرات الثلج.
لقد حققت هذه التقنية نجاحاً عندما طبقت على الهيدروجين العادي، لذا
يعتقد أنها ستكون فعالة عندما تطبق على الهيدروجين المضاد .
ستستخدم المادة المضادة مستقبلاً في تشكيل أخيلة داخل الجسم، بما في
ذلك الجسم البشري. لهذا النوع الجديد من (التصوير) فوائد عديدة مقارنة بالطرق
المعروفة حالياً، فكمية الإشعاع التي يتعرض لها المريض اقل مئة مرة، كما يمكن
تسخير هذه الطريقة في تدمير الأورام السرطانية بالكامل.
لكن أهم استخدامات المادة المضادة مستقبلاً، هو استعمالها كوقود في
محركات الدفع الصاروخي، وبالتبسيط فإن محرك الدفع الصاروخي الذي يعمل على
الهيدروجين وضده. تضخ البروتونات المضادة إلى قارورة مليئة بغاز الهيدروجين في
اسطوانة تقوم بدور المرجل، فتتحول المادة وضدها في المرجل إلى أشعة (غاما) التي
تستخدم في دفع الصاروخ، إن هذه الطريقة في الدفع تزيد السرعة ضعفين أو ثلاثة أضعاف
مقارنة بصواريخ الدفع الكيميائي المستعملة حالياً.
إن صغر حجم المحرك الصاروخي، وانخفاض كتلة الوقود بالنسبة لكتلة
الصاروخ في حال استخدام المادة المضادة وقوداً، يجعل هذا الاستخدام مناسباً
للأسفار القريبة والبعيدة نسبياً عن الأرض.
خلال بضع سنوات قادمة، ستنتقل المصائد المحتوية على البروتونات حول
العالم، ليس من أجل الأبحاث العلمية فقط، بل من أجل التطبيقات العملية في مجال
الطب أيضاً، وخلال بضعة عقود سيصنع مضاد الهيدروجين وربما مضاد مواد أخرى،
وستحفظ مضادات المادة هذه في مخازن مجهزة
لهذا الغرض.
مع تقدم المئة الميلادية الحادية والعشرين، ستجد المادة المضادة
تطبيقات جديدة، وسيزداد إنتاجها، مما سيؤدي إلى انخفاض في سعرها، عندئذ ستصبح
رحلات الفضاء في متناول الكثيرين، إذ سيكفي للقيام بمثل هذه الرحلات، غرامات قليلة
من المادة المضادة.[3]:
------------------------------------------------------
مراجع:
1. Dave
Goldberg, SCIENCE,THE STATE OF THE UNIVERSE,AUG. 29 2013 1:24 PM
2. Sarah
Graham, Solar Flare Serves Up Antimatter Surprises, Scientific American,
September 5, 2003
3. الموسوعة العالمية- ويكيبيديا.
الكلمات المفتاحية:
Symmetry, Anti Matter, Positron, Photon
مقالات و مقتطفات ذات علاقة:
تعليقات
إرسال تعليق