البحث عن عوالم جديدة

البحث عن عوالم جديدة

لقد أثار البحث عن حياة عاقلة في الكون مخيلة الإنسان منذ فجر التاريخ. يحكى أن الاسكندر المقدوني قال لصديقه (أنا كساركوس)، وكان الأخير يعتقد بوجود عدد لاينتهي من العوالم الآهلة بالناس: " ألا تعتقد أننا لم نكد نفتح أحد هذه العوالم المعروفة لديك، فما بالك بالأخرى؟".
وفي عصر النهضة في أوروبا، اعتقد الفيلسوف (جيوردانو برونو) بأن الشمس ليست إلا نجم كبقية النجوم المنتشرة في أرجاء الكون، وأن لكل نجم كواكبه التي تدور في أفلاك حوله، قد يكون بعضها مشابهاً للأرض. لقد اجتذب (برونو) بأفكاره الجديدة تلك حشوداً من الطلبة إلى محاضراته وكاد أن يُحدث انقلاباً على الأفكار التي هيمنت على أوروبا في العصور الوسطى من أن الأرض هي مركز العالم، فأحيل إلى محكمة البندقية عام (1592) بتهمة الهرطقة، حيث دافع عن معتقداته كما لم يسبق لفيلسوف مثله أن فعل منذ عهد سقراط، لا بل لقد هزئ بحكامه وتحداهم بأنهم هم الذين يجب أن يخافوه لأنهم ليس لديهم ما يثبت غير ما يقول، وكانت النتيجة أن أحرق حياً ليصبح الضحية الأولى والوحيدة لنظرية تعدد العوالم.
أما اليوم فيعود السؤال ليطرح نفسه من جديد مدفوعا بالنتائج التي توصلت لها علوم الفضاء و التي لم يسبق للبشرية أن حصلت على مثلها في تاريخها الطويل: ما هو عدد العوالم التي تشبه الأرض و التي تنتشر في الكون؟
لو تسنى لبرونو استعمال أجهزة الرصد الحديثة لوجد أن مجرتنا، وهي واحدة من عشرات المليارات من المجرات في الكون، تضم مئة مليار نجم وحدها. وأن الإمكانية قائمة  كي يكون لكل من هذه النجوم كواكب، أي أن عدد الكواكب المحتمل في الكون يبلغ مليارات المليارات، فهل يعقل أن تكون الأرض هي الوحيدة القابلة لاحتضان الحياة العاقلة كما نعرفها؟
 لنلق نظرة أكثر إمعاناً، بادئين بمجموعتنا الشمسية، وفيها عشرة كواكب تدور في فلك حول نجم نموذجي بكتلته، وبعمره الإشعاعي المستقر، هو الشمس، لا يصلح من بين الكواكب التسعة ببيئتها الحالية سوى الأرض للحياة، مع أن بعض هذه الكواكب، كالمريخ و الزهرة، قد يمكن استصلاحه ليستوعب شكل الحياة الذي نعرفه.
لكن الشمس واحدة من النجوم متوسطة الحجم، يبلغ عمرها الإشعاعي المستقر حوالي (11) مليار سنة أمضت منها (5) مليارات و بقي لها (6) مليارات سنة قبل أن تنهي عمرها الإشعاعي المستقر و تُسدل ستارة الفناء على كافة صنوف الحياة على الأرض.*  أما النجوم ذات الكتلة الأكبر من الشمس فأعمارها أقل من ذلك بكثير، من العبث إذا البحث عن كواكب واعدة في أفلاك مثل هذه النجوم. نأخذ النجم اللامع ريغل (Rigel) مثالاً، فنجد أن كتلته تبلغ خمسة عشر ضعف كتلة الشمس، وأن عمره حوالي (100) مليون عام، أي أقل أربعين مرة من عمر الشمس، و بالتالي لا يتوقع أن يكون لهذا النجم كواكب واعدة، فالأرض نفسها لم تكن صالحة للحياة عندما كان عمر الشمس(100) مليون عام.
إن الحياة الراقية كما نعرفها، يسبقها ظهور حياة نباتية تقوم بعملية التمثيل الضوئي مطلقة الأوكسجين اللازم لتستمر هذه الحياة. لقد ظهرت النباتات على الأرض منذ حوالي ملياري عام، عندما كان عمر الأرض يتراوح بين المليارين، والمليارين ونصف عاماً، فلو افترضنا أن الفترة التي انقضت بين تشكل الشمس وولادة الأرض تبلغ حوالي مليار عام، نجد أن لا جدوى من البحث عن كواكب واعدة حول النجوم التي يقل  عمرها عن ثلاثة مليار عام.
إذا تركنا عمر النجم جانباً، نجد من النجوم ما لا يلائم نشوء الحياة حوله أصلاً، نتيجة اضطراب معدل إشعاعها بين قوة و ضعف  بشكل دوري كل بضعة أيام، منها مثلاً النجم (زيتا جيماينورم – Zeta Gemeinorum) و ( دلتا سيفاي – ( Delta Cephai هذه النجوم يجب استقصاؤها من البحث. لابد أيضاً من إعداد خرائط ثلاثية الأبعاد لنجوم المجرة تبين مواقع الخطر، كالنجوم المرشحة للإستعار (لتنفجر في ظاهرة Super Nova)، ومواقع النجوم الخُنَّس (Neutron Stars)، والنجوم الثواقب (Black Holes). يحتفظ بهذه  الخرائط على متن السفن الكونية، وفي محطات الرصد والمتابعة على الأرض، كي يكون البحث عن الكواكب الواعدة مأموناً، ومنحصراً حول النجوم التي تقارب في كتلتها وعمرها الشمس، والتي يمكن الاقتراب منها بضعة مئات من ملايين الكيلومترات دون خطر.

سيتركز البحث إذاً عن الكواكب التي تتمتع بمناخ و موقع شبيه بمناخ الأرض و موقعها، فما هي ميزات الأرض كموطن للحياة الراقية؟ إن كتلة الأرض، ومقدار المسافة التي تفصل بينها وبين الشمس، وسرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس، ومناخها اللطيف المعتدل، وما تضمه بيئتها من محيطات وغابات وجبال وقارات، وبعد القمر عنها، وحجمه... هي من العوامل الهامة التي تؤمن إقامة سعيدة للإنسان على سطحها، الأمر الذي لا يفتأ علماء البيئة يذكروننا به باستمرار، وعلى مستكشفي الكواكب الأخرى مستقبلاً دراسة هذه العناصر بعناية، وتفهمها بدقة في بحثهم عن كواكب واعدة.

مدار الكوكب الآمن يقع في مكان ليس بالقريب من النجم ليصبح حارا و لا بالبعيد جدا عن النجم ليصبح بارد، بل في مكان متوسط بينهما، و هذا ماينطبق على الأرض في مدارها بين الزهرة و المريخ.

 لقد نُشرت إحصائيات كثيرة عن عدد الكواكب في المجرة، كما صنفت هذه الكواكب تبعاً لقابليتها للاستيطان، إلى كواكب جاهزة دون أي تعديل، وأخرى تحمل على سطحها أنواعاً من الحياة البدائية، وكواكب آهلة بالحياة العاقلة. إجمالاً إن معظم النجوم المستقرة تتبعها كواكب واعدة، وفي مجرتنا حوالي (25) ألف مليون نجم في منطقة الاستقرار تجاوز عمرها ثلاثة آلاف مليون سنة، وهي الفترة اللازمة كي تكون لها كواكب واعدة. تحوي المجرة مالا يقل عن (50) ألف مليون كوكب من أنواع مختلفة، فإذا افترضنا أن 99% من هذه الكواكب غير صالح للاستيطان، لأسباب متنوعة، يبقى حوالي (500) مليون كوكب واعد. لكي يكون الكوكب واعداً يجب أن يتميز بما يلي:
1.       أن يكون سطحه مفعماً بأصناف الحياة النباتية المولدة للأوكسجين، ومغموراً بمياه المحيطات.
2.    أن تكون كتلته تساوي أو أكبر بـ (0.4) مرة من كتلة الأرض كي يتسنى له الاحتفاظ بغلاف غازي، وأن لا تتجاوز (2.35) ضعفاً من هذه الكتلة كي تبقى قوى الجاذبية ضمن حدود الاحتمال.
3.    أن يكون عمر الشمس التي يدور حولها ثلاثة آلاف مليون عام أرضي على الأقل، ولكي تبقى هذه الشمس مستقرة، فإن كتلتها يجب أن تكون قريبة من كتلة شمسنا.

لقد اكتشف أول كوكب واعد منذ 26 سنة، ثم توالت الاكتشافات بعد ذلك حتى بلغ عدد الكواكب الواعدة المكتشفة 4302 كوكبا وفقا لمرصد كيبلر التابع لوكالة الفضاء الأميركية تم ترتيبها في جدول مشابه لجدول الترتيب الدوري للعناصر الكيميائية (جدول مندلييف)، يتضمن الجدول حجم الكوكب بالنسبة للأرض و موقعه من النجم الذي يدور حوله: هل يقع في المنطقة الحارة؟ أم الباردة؟ أم بينهما بحيث تكون درجة حرارته معتدلة و مهيأة لتستضيف الحياة، كما يظهر في الجدول التالي[1]:


الجدول الدوري لتصنيف الكواكب حسب قابليتها لاستضافة الحياة. فقط الكواكب في المستطيل الأخضر هي كواكب واعدة من حيث كتلتها و درجة الحرارة على سطحها.


لو أعدنا رسم هذا الجدول لكواكب و أقمار مجموعتنا الشمسية بغية التوضيح لحصلنا على الجدول التالي:


في المستطيل الأخضر نجد أنه إلى جانب الأرض كوكب المريخ  هو الكوكب الوحيد الواعد من كواكب المجموعة الشمسية في حين أن الزهرة وتقع فوق الأرض مباشرة لم ترد ضمن الكواكب الواعدة لارتفاع درجة الحرارة على سطحها كونها أقرب للشمس من ناحية، و لأن غلافها الجوي يتكون في معظمه من غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يسبب انحباس حرارة الشمس ضمن هذه الأجواء.



هل يمكن اكتشاف الكواكب الواعدة بالرصد من بعيد قبل المخاطرة بالاقتراب منها؟ و ما هي المسافة التي يمكن منها تمييز معالم أو فعاليات لحياة عاقلة على أحد الكواكب؟
لنأخذ الأرض مثلاً، نجد أن المدن التي تسطع أضواؤها ليلاً كنيويورك ولندن وباريس، تمكن رؤيتها بالمناظير الفلكية الحديثة مثل منظار هابل من بعد ثمانية ملايين كيلومتر، أي من مسافة أكبر من المسافة بين الأرض والقمر بعشرين مرة. أما الغابات الكثيفة فتمكن رؤيتها من بعد (480) مليون كيلومتراً، والمحيطات التي تبدو براقة تحت أشعة الشمس، تُرى من بعد (1127) مليون كيلومتر، أما إذا تجاوزنا هذه المسافة فلا تظهر الأرض في السماء إلا كنقطة عديمة الأبعاد.


مجرى النيل كما يبدو ليلا من محطة الفضاء الدولية

لكن الإشارات اللاسلكية المنبعثة من أجهزة الإذاعة والبث المختلفة يمكن التقاطها من مسافات تتجاوز حدود الرؤيا، فأجهزة الإنذار المبكر في محطات الرادار، يمكنها البث إلى مسافة أكبر من (16) ألف مليار كيلومتر باستطاعة أعظمية مقدارها (1) ميغاواط، أي إلى ضعف المسافة التي يبعدها الكوكب (بلوتو) أبعد كواكب المجموعة الشمسية عن الأرض، كما يعتقد أن آثار الترددات العالية للبث التلفزيوني يُمكن التقاطها على مسافة بضع سنين ضوئية.
إن أي مخلوق عاقل لن يفكر في الاقتراب من الأرض فيما لو التقط مثل هذه الإشارات خوفاً من تعرضه لهجوم من سكانها، إلا إذا توفرت له التكنولوجيا المناسبة التي تقيه شر المخاطرة.
لا تخلو مشاريع استيطان كواكب أخرى غير الأرض من جانب مظلم، فالمستوطنون الأوائل سيواجهون حضارات متخلفة عسكرياً وتكنولوجياً سيكون حظها سيئاً بهذه المواجهة غير المتكافئة، ولا نستبعد أن تتكرر مأساة استعمار العالم الجديد (أميركا)، الذي أبيد سكانه الأصليون من قبل المستعمرين الجدد، إذا لم يترافق التطور العلمي والتكنولوجي المتسارع بما يناسبه من تطور في الأخلاق و الفضائل.
لكن البعض يرى أن مستقبل الإنسان بين النجوم سيكون مزدهراً، وأن التبادل التجاري بين المدنيات العاقلة في المجرة سيبدأ مع العام (7000) م وسيقوم على تبادل ثروات الأرض التي تهتم بها المدنيات الأخرى بالجواهر والعقاقير والفرو والحشرات المفيدة.
يمكننا القول عموماً أن الارتحال من الأرض لاستيطان الكواكب البعيدة سيكون له وجهان: وجه الحرب و وجه السلام، فلمن ستكون الغلبة؟
نعود كما بدأنا إلى الاسكندر المقدوني لنتقتبس كلماته الأخيرة وهو على فراش الموت عندما سأله أحد ضباطه: لمن سيكون الأمر بعدك يا سيدي؟ ففتح عينيه في صحوة أخيرة وقال: للأقوى!!.
أما نحن فنسمح لأنفسنا بإجراء بعض التعديل على رأي الاسكندر الذي ربما عاجلته يد المنون قبل أن يستكمل ما يريد قوله، فنقول أن الأمر لا يمكن أن يستقيم لقوة غاشمة مهما عظمت، فالقوة التي تفتقر إلى الفضيلة لا تثمر سوى الدمار والهلاك والكوارث، ولا ننسى حروب اللصوصية والتوسع على حساب الآخرين التي قامت بها النازية و الفاشية في أوروبا في القرن الماضي، أو التي تقوم بها الأنظمة العنصرية و الإمبريالية في العالم اليوم. لكننا نجد أنه لابد للحق من قوة تحميه حتى يقف في وجه الاستبداد و الاستكبار.
------------------------------------------------------------------
أيضا [1]:
ROBBY BERMAN, The Periodic Table of All of the Exoplanets Found So Far, big think, December 2, 2017. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم