انحدار الغرب

في نهاية عام 1918 ظهر كتاب ضخم في مكتبات ألمانيا يحمل العنوان المثير التالي ... "انحدار الغرب"، بالألمانية:
 (Der Untergang des Abendlandes) لمؤلفه أوزوالد شبنغلر   [1] ....    ... يبدأ الكتاب هكذا:
"يضم هذا الكتاب لأول مرة محاولة لتقرير ما سيحدث في المستقبل، محاولة لمتابعة مراحل لم تقع بعد من مصير الحضارة المعاصرة".
تبرز أهمية ما قام به (شبنغلر) في أنه بعث فكرة الهدف و المصير من جديد لأنه و بحلول القرن الثامن عشر بما رافقه من اتجاه مادي علماني اختفت فكرة هدف التاريخ، و صار التاريخ لا يعني أكثر من سلسلة متتابعة من الأحداث في الماضي، لقد أدت أفكار فرويد في التحليل النفسي و إرجاعه مصدر الأفعال الإنسانية إلى الجنس و كارل ماركس و فلسفته التي تعزو حركة المجتمعات إلى أسباب اقتصادية بحتة و داروين و نظريته ذات الصيت في تطور الأنواع، أدى كل ذلك إلى اعتبار البشر جميعهم متشابهون و يخضعون لقوانين و مؤثرات نفسية و اقتصادية و بيولوجية واحدة، و لم يعد تاريخ البشر محور العالم، فطالما أن الإنسان نتيجة تطور طبيعي من سلسلة إحيائية وهي وإن كانت أدنى منه تطورا فإن وجود هدف للتاريخ البشري يستدعي بطريقة أو بأخرى و جود تاريخ هادف أيضا للقرود و الطيور و الضفادع و الأسماك، و بكلمات أخرى فقد حل الاتجاه المادي محل الاتجاه الروحي. لقد أدى هذا الاتجاه إلى تدمير الهدف الأخلاقي للحضارة الإنسانية و الفشل في إدراك أن المشاكل التي ندعوها أخلاقية مستمرة في وجودها حتى لو نبذنا فكرة أن الخاطئين يذهبون إلى الجحيم، و المحسنين إلى الجنة لأن المشاكل الأخلاقية مشاكل ذات تعقيدات تتعلق بالحياة الإنسانية و المجتمع، و هكذا فالأخلاق هي قوة الإنسان النفسية لتحقيق أشكال أرقى من الحياة أما إذا انفلتت إرادة الإنسان من القيد الأخلاقي فإن النتيجة ستكون سقوط الحضارة كما ينبئنا التاريخ، هذا بالإضافة إلى أن هذه الحاجة أصبحت ملحة اليوم كي تبعث فكرة الهدف من الحياة أو معنى الحياة، فبالرغم من أن العقلانية و التقنيات الحديثة قد زادت من تقدم الإنسان و رفاهيته على حساب الطبيعة، إلا أن هذا التقدم بالذات قد جعل الرغبات و الشهوات البهيمية متاحة جدا بحيث يسهل الانغماس فيها و الانحدار في اتجاه أشكال الحياة الأدنى إذا لم يتوفر للحضارة الهدف أو الدافع الأخلاقي ليحفظها من التدهور و الانهيار. لقد عادت هذه الحاجة الأخلاقية لتظهر أواخر القرن العشرين، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها مخلفة الكوارث و الدمار الهائل الذي نتج عن تطور تكنولوجي غير مسبوق في إنتاج الأسلحة و وسائل التدمير الشامل، لم ترافقه الأخلاق اللازمة كي يحسن توظيفه و استخدامه، إذ نجد مثل هذا التحليل في مؤلفات الكثيرين من المفكرين الغربيين البارزين مثل (كيركغارد و نيتشة و شو).
يشبِّه (شبنغلر) ما ألم بالحضارة المعاصرة بمرض سرطاني فهاهو الإنسان الحديث بالرغم من كل معارفه العلمية ما يزال في حماقة أجداده، و ما يزال يستخدم كل الخدع السياسية و المكر من أجل الزعامة و السيطرة على موارد الثروة الطبيعية غير معني بما يسببه ذلك من فساد و إفساد، إنه يريد أن يتملكه شيء، أي شيء، و لو كان الطاغوت نفسه، أن يؤثر عليه أي زعيم سياسي أو لاعب كرة أو نجمة سينمائية، أي شيء يخلصه من تفاهته و خوائه. إن تجذر التفاهة و الضياع في الحضارة المعاصرة تجذرا محكما يعني أن هذه الحضارة تتدهور، و الحل يكمن في الحاجة إلى التفوق على النفس ... إن الفكر المادي المدعوم بالتكنولوجيا المتطورة قد يمنح الإنسان القوة للسيطرة على عالمه الخارجي و لكنه لا يمنحه القوة للسيطرة على نفسه، إنه يجعله طاغية أو مليونيرا، لكنه لا يجعله يدرك الغاية من وجوده، إن الإنسان الذي تقتصر حياته العقلية على التفكير في المنطق و العلم هو إنسان وسط، و سيصبح شيئا فشيئا متحجرا عقليا و لن يكتشف نفسه.
لا يعني هذا أن العلم عديم الجدوى، بالعكس فالعلم يعتبر أعظم أداة توصل إليها الإنسان ليفهم العالم المادي و يسخره لخدمته، لكن المعرفة التي توفرها العلوم الطبيعية هي جزء من حقيقة العالم و حسب، و على البشر أن لا ينظروا إلى العالم المادي باحتقار بيد أنهم يجب أن لا يكونوا عبيدا له و ألا يسجنوا أنفسهم فيه، فلا فائدة من الرهبانية التي تنأى بنفسها عن المجتمع و التي تقتصر على تعذيب و حرمان الجسد من المتع التي لا تسيء إلى الروح.
حين يتحرر الإنسان من التافه و المباشر و من التجارب العاطفية المتكررة التي لا تعلمنا جديدا على الإطلاق كالحسد و العصبية و الخوف و الطمع ... فإنه ينتقل إلى عالم يتميز باكتشاف ذاتي جديد، لذلك فإن المادية بكل صورها: الماركسية و المنطقية الإيجابية و إنسانية (برتراند رسل) العلمية المفتعلة كلها تجعل الإنسان حبيس الزمن و الحاجة المادية العابرة، لذلك يجب التحرر من نماذج التفكير هذه التي أثبتت فشلها مرة بعد أخرى، و لنا من خواء الحضارة المعاصرة من كل معنى إنساني رفيع أكبر دليل على ذلك.
لقد أصيب معظم الفلاسفة الغربيين بعرج روحي، فقد رفع الغرب العقلانية و النهج العلمي فوق كل شيء و بهذا أتيح للعلماء أن يتناسوا الدافع الأخلاقي وراء أعمالهم فقد يكون للإنسان طاقة عقلانية عظيمة و يكون شديد الحمق في الآن نفسه، فالقابلية العقلانية القوية للبحث و التمحيص لا علاقة لها بالنبوغ البتة، إذ لم يلح على إسحاق نيوتن –واضع أسس الجاذبية الكونية- شيء من الذكاء في صباه، و لم يعرف بيتهوفن مؤلف السيمفونية العالمية الخامسة كيف يضرب و يقسم الأعداد، و لم يستطع المنطق أن يحقق إبداعا في يوم من الأيام، و إنما يتحقق الاكتشاف و الإبداع بالفطرة المدركة في حين إن المنطق يتعكز خلف هذه الفطرة و يحاول أن ينوع من الاكتشافات بطريقته البطيئة.
إن المنطق هو خادم الخيال المبدع.
نجد أفكارا مشابهة عن تدهور الحضارة الغربية في كتاب (أرنولد توينبي)[2]: "بحث في التاريخ"، إنه سجل لأغرب رحلة روحية في عصرنا هذا، يعتقد توينبي بأن الحضارة تزدهر في الظروف التي تواجه فيها أكبر التحديات، و كلما ازداد التحدي أصبح البشر الذين يواجهونه أكثر عظمة؛ و يضرب (توينبي) أمثلة على ذلك "روما و بيزنطة و أثينا و إسبارطة و غيرها ..."، إن الناس الذين يعيشون في ظروف سهلة هم ضعاف، و الذين يعيشون في ظروف صعبة هم الأقوياء، فإذا أرادت الحضارة أن تكون قوية روحيا و ثقافيا فإنها بحاجة إلى محيط قاس يتسم بالتحدي، فكلما اشتد التحدي زاد الدافع المحرض قوة.
إن الزهو و الغرور و الاستسلام للشهوات هو السبب في سقوط الحضارة، الأمر الذي يتطلب من كل حضارة أن تختبر ذاتها باستمرار.
لقد أدلى (توينبي) بحقيقة هامة ضد المادية، إذ لا يعتمد الفرد فقط على الطاقة الإبداعية المطوِرة بل تعتمد الحضارات على تلك الطاقة أيضا ، و هذا مضاد للمادية الجدلية تماما، التي تقول أن الحضارات تتطور وفقا للضغوط الاقتصادية، و ليست هناك إرادة حرة، في حين أن (توينبي) يقول: إن الحضارات تتطور و تزدهر أو تتدهور وفقا للطاقة الأخلاقية التي تتميز بها نخبتها، و لهذا فإن عبارة "الطاقة الأخلاقية" تكون عديمة المعنى إذا لم توجد هناك إرادة حرة.
يبدأ تدهور الحضارة بفعل النجاح الذي سرعان ما يقود النخبة إلى الكسل و الراحة أو إلى الخشونة و الطغيان، و كل من هاتين النتيجتين تؤديان إلى التدهور و السقوط. هنا تصبح النخبة مجرد أقلية ضحلة تقبض على القوة كامتياز من امتيازاتها -و ليس لأنها تستحقها باعتبارها تمثل الطليعة المبدعة- فينقسم المجتمع إلى ثلاث فئات: أغلبية غير قانعة بما آلت إليه الأمور و أقلية فاسدة أو مستبدة حاكمة و نخبة من المبدعين تجد نفسها و قد أصبحت غريبة عما آلت إليه الأمور فتنسحب من العطاء.
هذه الجماعات الثلاث تكره بعضها فيحاول الزعماء أن يتمسكوا بسلطاتهم بصورة أشد، و ترد الغالبية على ذلك بالعصيان، في حين أن النخبة تشتد في انعزالها وتحتفظ بالمثل و القيم التي ستنتقل إلى حضارة جديدة، و تقوم الحضارة في مراحل احتضارها الأخيرة بإنتاج المخلصين الذي يحاولون الخروج بها من الزقاق المسدود فيبذلون مجهودا هائلا من أجل الصحوة المؤقتة التي تسبق التدهور التام.
يميل (توينبي) في الأجزاء الأخيرة من تاريخه إلى إظهار أفكاره الدينية بوضوح فيقول أن مثل الحضارة الأعلى هو "التقرير الذاتي" أي أن تصبح الحضارة مسيطرة على نفسها ضمن الأطر الأخلاقية التي وضعتها، و لكن ماذا بعد؟ يشبه هذا قولنا أن هدف الإنسان المثالي أن يصبح مسيطرا على نفسه ولكن لماذا؟ قد يسعى الإنسان إلى السيطرة على نفسه ليصبح قائدا أو مفكرا أو قديسا، إلا أن السيطرة الذاتية لا تمثل هدفا نهائيا بحد ذاتها.
يوضح (توينبي) في الأجزاء الأخيرة من كتابه أن التاريخ كله ليس إلا سعي نحو الله، إنه محاولة الروح المستمرة لقهر المادة، لقد لاحت فكرة الدين في الأجزاء الأولى من الكتاب ضبابية إذ اعتبر (توينبي) أن الدين ما هو إلا ردة فعل تجاه الظروف المادية التي تعيشها الحضارات و راحة في وجه الموت و نظاما من الخرافات التي تحاول تفسير مصير الإنسان المجهول. أما في الأجزاء الأخيرة فقد اتسعت آراؤه و ازدادت عمقا ليرى الحقيقة الجوهرية التي تجمع الأديان كلها، و هي محاولة إظهار سمو الروح الخالدة و ما يقابل ذلك من عدم الأهمية بالنسبة لمشاكل عالمنا في المكان و الزمان. إن الرؤيا الخلاقة بالنسبة ل(توينبي) تتمثل أخيرا بالمحبة لكل ما هو موجود، و يلتقي في ذلك مع ابن عربي [3] قبل ذلك ببضعة قرون، الذي جمع الأديان جميعا في مزهرية الحب بقوله:

لقد صار قلبي قابل كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني[4]

لقد رفض (توينبي) أن تكون حركة التاريخ آلية تخضع لقياسات مادية مطلقة فأدخل العامل الروحي و الإنساني كمحرك أساسي للتاريخ. يقول (توينبي):
"...لقد أغرت منجزات الحضارة الحديثة ضحاياها و أغوتهم فباعوها أرواحهم مقابل المصابيح الكهربائية والسينما و الراديو... و كانت نتيجة هذا الدمار الحضاري الذي سببته هذه الصفقة جدب روحي أدى إلى مجتمع الخنازير... ..."
يأمل (توينبي) أن يكون خلاص الغرب بالانتقال من الحضارة المادية المقفرة روحيا و أخلاقيا إلى الدين قائلا:
"
إن الغربي يستطيع بواسطة الدين أن يتصرف تصرفا روحيا يضمن سلامته من القوة المادية التي ألقتها بين يديه ميكانيكية الصناعة الغربية"، نعم لقد حققت الحضارة الغربية تقدما ماديا هائلا بتسخير العلم لرفاهية الإنسان و اقتصرت على الجوانب المادية من المعرفة فقط الأمر الذي أفقدها القوة الروحية التي هي الطاقة الحيوية لحفظ الجنس البشري، و بدون هذا المفهوم الحيوي فإن كلمة التقدم تكون مجرد سخرية، بل إنها تشبه سيارة لا وقود فيها.
------------------------------------------------------------------------------------
[1]. ولسون كولن: سقوط الحضارة، ترجمة أنيس زكي حسن، منشورات دار الآداب-بيروت
[2]. أرنولد جوزف توينبي: مؤرخ بريطاني ولد في 14 أبريل 1889 في لندن وتوفي في 22 أكتوبر 1975. أهم أعماله موسوعة دراسة للتاريخ، وهو من أشهر المؤرخين في القرن العشرين .
 [3]. هو (أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عبد الله العربي الحاتمي الطائي الأندلسي)، ولد في مرسية سنة  560 هـ، يعد ابن عربي من أشهر مشايخ الصوفية.
[4]. ترجمان الأشواق، بيروت طبعة 1961، (ص 43)، "سيد حسين نصر"، دار النهار للنشر، ص (153).


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما قاله أعلام علماء المسلمين عن كروية الأرض و شكل الكون

معجزة الشمس

أمثولة الكهف؛ قصة الحقيقة و الوهم