ولادة سوريا الجديدة: تجدد الأمل والحضارة
اليوم ينفض طائر الفينيق جناحيه ليخرج من تحت رماد السنين مبشرا بولادة سوريا التجدد والأمل، سوريا الحضارة الضاربة في عمق التاريخ. نحن اليوم شهداء على مخاض عسير يبشر بفجر جديد لابد أن يحمل بين طياته الصفات التاريخية والأخلاقية والتنوعات الثقافية التي امتازت بها سورية عبر السنين والتي حملها الآباء والأجداد، فمن شابه آباءه وأجداده ما ظلم.
دعونا نتصور أولا سوريا المستقبل، سوريا الحلم، ولننسى مبدئيا التعريفات السياسية المعلبة التي تصف الدولة الحديثة: كالديمقراطية والعلمانية والمدنية والتيوقراطية ...، لنفكر خارج صندوق هذه المسميات، فهي تبدو براقة آسرة للفكر للوهلة الأولى ما دامت على الورق، ثم لا تلبث أن تصدمنا بحقيقتها المرة عندما نعاينها على الواقع.
الديمقراطية مثلا، وبالرغم من مزاياها العديدة، ليست خالية من العيوب والتحديات. من بين مساوئ النظام الديمقراطي يمكن أن نذكر:
1. القرارات البطيئة: في النظام الديمقراطي، تكون عملية صنع القرار بطيئة عادة ومعقدة بسبب الحاجة إلى مناقشة وتمحيص كل قرار من قبل العديد من الأطراف والهيئات. الأمر الذي يعرقل اتخاذ القرارات المتعلقة بالتنمية وحل المشكلات الطارئة التي تكون الدول النامية بأمس الحاجة إلى السرعة في اتخاذها.
2. التكلفة العالية: الانتخابات والعمليات الديمقراطية تتطلب ميزانيات كبيرة، هذه النفقات تشكل عبأً على اقتصاد الدول النامية.
3. تأثير المال والسياسة: للمال في النظام الديمقراطي أثر كبير على السياسة والانتخابات، مما يؤدي إلى تركيز السلطة في أيدي الأثرياء، الذين ينحازون في قراراتهم إلى شريحة المجتمع التي ينتمون إليها عادة على حساب باقي شرائح المجتمع.
4. القطبية والتفرقة: غالبا ما يؤدي النظام الديمقراطي إلى انقسامات سياسية واجتماعية حادة بين الأحزاب والمجموعات المختلفة، مما يمكن أن يعيق التقدم الذي تكون الدول النامية بأمس الحاجة إليه.
5. الوعي السياسي: تتطلب الديمقراطية مشاركة واعية وفعالة من قبل المواطنين، وهذا قد يكون تحدياً في المجتمعات التي تفتقر إلى التعليم أو الوعي السياسي الكافي.
أما العلمانية التي تدعو لفصل الدين عن الدولة وتدَّعي أنها تقف على مسافة واحدة من جميع المعتقدات، فهناك كثير من الانتقادات والتحديات التي تواجهها وتجعلها غريبة عن طبيعة المجتمعات التي تضرب جذور الفضيلة والأخلاق في عمق تاريخها، كمجتمعاتنا العربية المحافظة. من أهم التحديات التي تواجهها العلمانية ما يلي:
1. التجرد من القيم الدينية: يرى البعض أن العلمانية قد تؤدي إلى تجرد المجتمع من القيم والأخلاق التي يعززها الدين.
2. التفرقة الثقافية: في بعض المجتمعات، قد تشعر الجماعات الدينية بالإقصاء أو عدم الاحترام لقيمهم ومعتقداتهم.
3. الخلافات حول المناهج التعليمية: قد تنشأ خلافات حول ما يجب تدريسه في المدارس، خاصةً إذا كانت القيم الدينية مهمة لجماعات معينة.
4. تعقيدات قانونية: قد تفرض العلمانية قوانين تتعارض مع المعتقدات الدينية لبعض الأفراد، مما يؤدي إلى قضايا قانونية وتوترات اجتماعية.
5.الإلحاد مقابل الإيمان: في بعض الحالات، يمكن أن يُنظر إلى العلمانية على أنها تروج للإلحاد، مما يثير قلق المؤمنين من أن دولتهم لا تحترم معتقداتهم الدينية.
من نتائج تطبيق العلمانية في بعض الدول اليوم قنونة الشذوذ الجنسي، فيستطيع الصديق أن يتزوج صديقه مثلا، والصديقة صديقتها. أو الحق في تغيير الجنس الطبيعي من ذكر إلى أنثى وبالعكس لمن يرغب بذلك تحت حماية القانون، وأشياء أخرى كثيرة استبعد ذكرها هنا لأنها تخدش الحياء وتتحدى الفطرة والطبيعة الإنسانية. وفي الوقت الذي يبيح النظام العلماني كل ذلك فإنه يضع خطوطا حمر أمام مقدسات لا يجوز لأحد أن يتجاوزها مثل التشكيك بمحرقة اليهود على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. بل لقد حاول المفكر الفرنسي المرموق روجيه غارودي توضيح أن فظائع النازيين لم تقع على اليهود وحسب بل على جميع أعداء هتلر فحوكم وأدين وحوربت أفكاره وكتبه، ولم يشفع له تاريخه الطويل في مقارعة النازيين أن يموت وحيدا معزولا عن مجتمعه العلماني.
لقد بينت التجارب المريرة التي مرت بها الإنسانية أن الإنسان لا يقوم وحده بدون رادع من أخلاق أو دين، فمن خلال بحثها عن إله غير الله وجدت البشرية نفسها وقد وقعت في الخواء والعدم، يصف الفيلسوف والمفكر الفرنسي جان بول سارتر هذه الحالة بقوله: "الخواء الذي تشكّل على هيئة الرب في الوعي البشري". إنه الفراغ الذي تركه الإلحاد، ولم يعوضه جميع ما حاولوا إيجاده من بدائل، فلا الإنسان الخارق الذي حلم به الفيلسوف الألماني نيتشه، ولا الأيديولوجيات النازية والشوفينية ولا الروحانيات العلمانية التي أتت عن طريق الأدب والفن، أو الممارسات الجنسية البهيمية والتحليل النفسي والمخدرات أو حتى الرياضة التي شاع الترويج لها وممارستها والاستغراق من خلالها في حركة الكرة بين أقدام اللاعبين ... كل ذلك لم يضف على الحياة الإنسانية الحس السامي والقيمة ويصل البشر بأعماق الوجود كما فعلت الديانات السماوية، كل ذلك لم يملأ الثغرة التي خلفها غياب الله في الفكر الإنساني، والتي كانت الديانات السماوية تملؤها.
هذا الخواء لم يبق نظريا وحسب، ففي منتصف القرن العشرين تم تحويله إلى واقع من خلال الحرب العالمية الثانية التي تلت الأولى، وأبيد من خلال هاتين الحربين حوالي سبعين مليون إنسان وارتُكبت أسوأ الفظائع وتحول العلم إلى بربرية سخّرت التكنولوجيا في خطط إبادة جماعية لم يسبق أن شهد بمثل فظاعتها التاريخ، وتُوِّجت أعمال الإبادة هذه بتفجير قنبلتين ذريتين على رؤوس البشر في هيروشيما وناغازاكي في اليابان فأبيد مئات الألوف من الناس بلمح البصر، وبدا أن نهاية العالم التي أخبرت عنها الأديان أصبحت قريبة الوقوع على أيدي البشر أنفسهم ولم يعد يخفى أن جرثومة الفناء يحملها قصور روح العقلانية ومواقفها، وان أسلحة الدمار الشامل التي أصبحت تمتلكها كثير من الدول بمقدورها أن تفني في ساعات أعدادا من البشر لم تستطع الحروب التقليدية الغابرة جميعها أن تطالهم عبر العصور، وبدا واضحا ما يمكن أن تكون عليه الحياة حينما يضيع الإحساس بالمقدس، فلقد ساعدت الأديان الناس من خلال طقوسها وممارساتها العقائدية والأخلاقية على غرس التقدير لقدسية البشر و عندما غاب الدين اندفع البشر الذين امتلكوا قوة لم يسبق لها مثيل وسخروا هذه القوة لتدمير كل ما تطاله آلتها من منجزات الحضارة.
في الوقت نفسه فإن الأصولية المتطرفة التي انسحبت من التيار الرئيسي للمجتمع لتخلق ثقافات مضادة للعلم والحرية والتقدم، لم يكن انسحابها نابعا من الحقد والكبرياء بل بدافع من الرعب والخوف من آلة الدمار التي خلفتها تجربة الحداثة الخاوية من روح الاحترام والقداسة للحياة على هذا الكوكب، ومن هنا بدأ غضب الأصولية الدينية الانفعالي ورغبتها المحمومة لملء الخواء الروحي باليقين. هذا النوع من الأصولية قد ينتج حكومات تيوقراطية يتولى السلطة فيها رجال الدين أو الزعماء الدينيون. على الرغم من أن هذا النظام يمكن أن يوفر استقرارًا معينًا في بعض المجتمعات، إلا أن له عيوبًا وتحديات عديدة، تتعلق بحقوق الأفراد وحرية الفكر والتعددية الدينية والمذهبية.
لقد أصبح من المحتم إذا إيجاد أساليب جديدة تجمع بين احترام قدسية الحياة من جهة وحمايتها من تغول وتوحش السلطات الحاكمة، ولا تقدم تنازلات عن منجزات الحضارة الحديثة لحساب عقائد متطرفة تختفي تحت عباءة الدين من جهة أخرى. هذا التوحش الذي يضرب بقدسية الحياة الإنسانية عرض الحائط ما زال مستمرا، ولا أدل على ذلك من حرب غزة التي لم تدخر آلة الحرب فيها حجرا ولا بشرا إلا دمرتهما بدم بارد ودون أن يرف جفن للغرب الذي يتبنى شعارات حقوق الإنسان بألفاظ طنانة رنانة. بل لا أدل عليه مما عانته سورية قبل الثورة من فئة فاسدة اغتصبت السلطة وامتهنت حرية وكرامة الإنسان، مخلفة بصماتها المتوحشة في مكبس البشر الأحياء في صيدنايا وفي المعتقلات الممتدة تحت وفوق الأرض على امتداد الجغرافية السورية وفي مصادرة الفكر والكرامة والشرف قبل الثروة الوطنية، ورهن جغرافيا الوطن لدى الغرباء.
لا ضمانة ضد التوحش إلا الشعور بالمقدس وتعميق هذا الشعور. من الضروري أن نفتح أنفسنا لتجربة الله الأصيلة التي تتجلى في الفعل المبدع للإنسان في العلوم والتقنيات والفنون وفي جميع أشكال التعبير التي بها يهب حياته وحياة المجتمع معنى، وها هنا ينبعث المقدس الذي يرتبط بكل ما يعطي الحياة سموا ومعنى ويجمع الأديان جميعا في مزهرية الحب.
لنقل إذا أننا نحلم بدولة حكومتها تمثل نخبة الشعب للشعب، تديرها الصفوة المختارة من فنيين ومهندسين وجيولوجيين وأطباء وكيماويين ورجال اقتصاد وعلماء اجتماع ونفس وفلسفة ... يسعون من الناحية الاقتصادية إلى الاكتفاء الذاتي مشفوعا بالعلم والبحث والتطوير لأن الاستقلال السياسي لا يتحقق بدون الاستقلال الاقتصادي، منفتحون على العالم الخارجي، يسمحون لرياح التغيير أن تهب عليهم من كل جانب دون أن تقتلعهم من جذورهم. دأبهم في كل ذلك اللقاح الإلهي الذي تلقوه عبر مزهرية الحب التي تحوي جميع الأديان.
تعليقات
إرسال تعليق